آفاق واعدة تنتظر استفادة المغرب من الخبرة الصينية في مجال تحلية المياه
قال ناصر بوشيبة، رئيس جمعية التعاون الإفريقي-الصيني للتنمية (ACCAD)، إن “الخطاب الملكي السامي، الذي ألقاه الملك محمد السادس في الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش المجيد، أكد على ضرورة ابتكار حلول مستدامة لمواجهة شح الموارد المائية، وهو تحدٍ لا يقتصر على المغرب وحده، بل يمتد ليشمل دول حوض البحر الأبيض المتوسط بأكملها”.
وأكد بوشيبة، في مقال بعنوان “آفاق واعدة تنتظر الشراكة المغربية الصينية في تحلية المياه”، على أن “تحقيق الاستقلالية في مجال تحلية المياه يتطلب رؤية استراتيجية طموحة، وفي قلب هذه الرؤية تكمن أهمية الشراكات الدولية القائمة على نقل التكنولوجيا والخبرات”، مضيفا أن “التجربة الصينية في هذا المجال تقدم نموذجًا ملهمًا يستحق الدراسة والاستفادة منه”.
نص المقال:
في الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش المجيد، ألقى جلالة الملك محمد السادس، حفظه الله، خطابًا ملكيًا جوهريًا. فيه، وجّه جلالته أنظار الأمة إلى قضية الوضع المائي في المملكة، بحكمته المعهودة، قدم جلالته تحليلًا عميقًا للتحديات المائية التي تواجهها بلادنا. وبرؤية ثاقبة، طرح جلالته مجموعة من التدابير العاجلة، داعيًا كافة الجهات المعنية للتحرك السريع لمعالجة أوجه القصور في السياسات المائية الحالية. أكد الخطاب الملكي السامي على ضرورة ابتكار حلول مستدامة لمواجهة شح الموارد المائية، وهو تحدٍ لا يقتصر على المغرب وحده، بل يمتد ليشمل دول حوض البحر الأبيض المتوسط بأكملها. إن هذا الخطاب يمثل دعوة ملكية صريحة للعمل الجاد والمبتكر، لضمان مستقبل مائي آمن لأجيالنا القادمة، وترسيخ مكانة المغرب كنموذج رائد في الإدارة الحكيمة للموارد المائية.
في خطابه الملكي المُلهم، سلّط جلالته الضوء على حلول مبتكرة لمواجهة تحديات المياه. ومن أبرز هذه الحلول الاستراتيجية، دعا جلالته إلى تسريع وتيرة تنفيذ مشاريع تحلية المياه بشكل طموح. وبنظرة ثاقبة للمستقبل، أكد جلالته على الأهمية القصوى لتطوير صناعة وطنية متكاملة في هذا المجال الحيوي. هذه الرؤية الملكية السديدة تهدف إلى تعزيز استقلالية المملكة في قطاع المياه، مما سيضمن أمنًا مائيًا مستدامًا على المديين المتوسط والبعيد، ويرسخ مكانة بلادنا كرائدة في مجال إدارة الموارد المائية.
إن تحقيق الاستقلالية في مجال تحلية المياه يتطلب رؤية استراتيجية طموحة، وفي قلب هذه الرؤية تكمن أهمية الشراكات الدولية القائمة على نقل التكنولوجيا والخبرات. هذا النهج لا يُعد خيارًا فحسب، بل ضرورة حتمية لتعزيز قدرة بلادنا على مواجهة التحديات البيئية والمناخية غير المسبوقة التي نشهدها. وفي ظل توقعات الخبراء بأننا مقبلون على فترة جفاف بنيوي قد تمتد لخمسة عقود قادمة، فإن الحاجة إلى تطوير صناعة وطنية قوية في مجال تحلية المياه تصبح أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. ولعل التجربة الصينية في هذا المجال تقدم نموذجًا ملهمًا يستحق الدراسة والاستفادة منه. فقد نجحت الصين في بناء قدرات محلية متطورة في تكنولوجيا تحلية المياه، مما عزز استقلاليتها وقدرتها على مواجهة تحديات ندرة المياه. إن تبني نهج مماثل، مع تكييفه ليلائم السياق المغربي، من شأنه أن يضع المملكة في موقع ريادي إقليميًا وعالميًا في مجال إدارة الموارد المائية. هذا التوجه لا يضمن فقط الأمن المائي لبلادنا، بل يفتح آفاقًا واعدة لتصدير الخبرات والتكنولوجيا المغربية في هذا القطاع الحيوي مستقبلًا.
قبل أربعة عقود، واجهت الصين تحديات مائية مماثلة لما نشهده اليوم في المغرب. وفي مواجهة الآثار البيئية المتصاعدة الناجمة عن الاستهلاك المفرط للمياه، اتخذت الصين قرارًا استراتيجيًا حاسمًا ألا وهو جعل تحلية مياه البحر والمياه الجوفية المالحة ركيزة أساسية في سياستها المائية. هذا التوجه الاستراتيجي فتح الباب أمام فرص استثمارية هائلة، جذبت كبرى الشركات العالمية المتخصصة في إدارة الموارد المائية. وسرعان ما تحولت السوق الصينية إلى ساحة تنافس محمومة، حيث فازت هذه الشركات بمشاريع ضخمة حققت من خلالها أرباحًا طائلة. ولم يقتصر الأمر على تنفيذ المشاريع فحسب، بل امتد ليشمل عقود تشغيل وصيانة طويلة الأمد، مما ضمن استمرارية الاستثمارات وتدفق الخبرات. لكن الصين لم تكتفِ بدور المستهلك للتكنولوجيا الغربية. فقد حولت هذه الشراكات إلى فرصة ذهبية لنقل المعرفة وتوطين التكنولوجيا. وعبر سياسة ذكية للتعاون والتعلم، نجحت في بناء قدراتها الذاتية وتطوير صناعة وطنية رائدة في مجال تحلية المياه.
إن النموذج الصيني يفتح أمامنا آفاقًا واعدة، مقدمًا دروسًا قيّمة في فن تحويل التحديات إلى فرص ذهبية. فمن خلال الاستفادة الذكية من الخبرات العالمية، يمكننا بناء قدرات وطنية راسخة. هذه التجربة الملهمة تنير الطريق أمام المغرب في رحلته نحو ابتكار حلول رائدة ومستدامة لمواجهة شح المياه. وبهذا النهج الطموح، سنضمن نقلًا فعالًا للتكنولوجيا وتطويرًا للخبرات المحلية، مما سيعزز استقلالية مملكتنا في هذا القطاع الاستراتيجي، ويرسخ مكانتها كرائدة إقليمية في إدارة الموارد المائية.
في الوقت ذاته، أولت الصين اهتماما كبيرا لتنمية الكوادر البشرية المتخصصة. فقد بادرت إلى استحداث برامج دراسية مبتكرة في الجامعات والمعاهد، هادفةً إلى إعداد جيل جديد من المهندسين والتقنيين المتميزين في مجال تحلية ومعالجة المياه. وفي خطوة طموحة، ضاعفت الدولة استثماراتها في مجال البحث العلمي، مما عزز قدراتها الابتكارية. وبفضل الدعم والتوجيه الحكومي الفعال، برز عدد من الشركات المحلية الرائدة في تصنيع مكونات أنظمة التحلية الحيوية. تشمل هذه المكونات مضخات الضغط العالي، وأنظمة الترشيح فائقة الكفاءة (UF)، وأجهزة استعادة الطاقة المتطورة، والأغشية الأسموزية العكسية، وأنابيب “UPVC/HDPE”، إضافة إلى مجموعة واسعة من القطع الأساسية الأخرى. هذا التقدم الملحوظ يعكس التزام الصين بتحقيق الريادة في تقنيات معالجة المياه.
في إطار هذه الرؤية الطموحة، شهدنا على مستوى جمعية التعاون الإفريقي الصيني من أجل التنمية (ACCAD) نقلة نوعية في العلاقات الثنائية. فمنذ الزيارة التاريخية لجلالة الملك محمد السادس، حفظه الله، إلى بكين في ماي 2016، انطلقنا في مسار واعد لتعزيز التعاون في مجال تحلية المياه بين الفاعلين الاقتصاديين من كلا البلدين. وتلبية لدعوة من رئيس الجمعية قام وفد صيني رفيع المستوى بزيارة عمل مثمرة إلى المغرب في الفترة من 15 إلى 22 يونيو 2019. ترأس هذا الوفد شخصيتان بارزتان في مجال تحلية المياه: تشنغ كنجيانغ، رئيس جمعية صناعة الأغشية الأسموزية الصينية (MIAC)، ولي يو تشينغ، نائب رئيس الرابطة الدولية لتحلية المياه (IDA).
خلال هذه الزيارة المهمة، تم استكشاف آفاق واعدة للتعاون، بما في ذلك إمكانية نقل وحدات إنتاجية متطورة لتحلية المياه إلى المغرب. هذه الخطوة الاستراتيجية تهدف إلى تلبية احتياجات المملكة المتزايدة في هذا القطاع الحيوي والناشئ. وتُوجت هذه الجهود بنجاح ملموس، حيث تم تأسيس شركة مغربية-صينية مشتركة في نونبر 2019، مما يمثل خطوة هامة نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي وتعزيز القدرات الوطنية في مجال تحلية المياه.
خلال المرحلة التحضيرية للمشروع، تبلورت رؤية طموحة للشراكة مع الجانب الصيني، مرتكزة على محورين أساسيين: تعزيز التعاون في مجال البحث العلمي، وتأهيل الكفاءات التقنية المحلية. وقد أثمرت عن هذه الرؤية إنجازات ملموسة في وقت قياسي:
أولا، تم إنشاء وحدة تجريبية رائدة لتحلية المياه الجوفية المالحة في واحة أرفود بالجنوب الشرقي للمملكة. هذا المشروع الواعد يمثل خطوة هامة نحو تطوير حلول مستدامة لمعالجة شح المياه في المناطق الصحراوية.
ثانيا، وفي خطوة استراتيجية لبناء القدرات الوطنية، تم إيفاد الدفعة الأولى من الطلبة المغاربة الموهوبين لمتابعة دراساتهم العليا في برامج الماجستير والدكتوراه بأرقى الجامعات الصينية المتخصصة في مجال تحلية المياه. هذه المبادرة تفتح آفاقا واسعة لنقل المعرفة وتوطين التكنولوجيا، مما سيعزز قدرة المغرب على الابتكار والريادة في هذا المجال الحيوي.
هذه الإنجازات الأولية تبشر بمستقبل واعد للتعاون المغربي-الصيني في مجال تحلية المياه، وتضع الأساس لشراكة استراتيجية طويلة الأمد تعود بالنفع على كلا البلدين.
شهد عام 2022 إنجازا بارزا لمجموعتنا، حيث أبرمنا أول عقد لتطوير وبناء محطة تحلية مياه مبتكرة من نوع الوحدات الجاهزة (Modular desalination unit). هذه المحطة المتطورة تمتاز بقدرة إنتاجية تصل إلى 7.3 ملايين متر مكعب سنويا، مما يمثل خطوة كبيرة في تعزيز موارد المياه. وفي إنجاز لافت للنظر، تمكنا من إتمام عملية تركيب المعدات وتسليمها في موقع البناء خلال فترة قياسية لم تتجاوز سبعة أشهر فقط. تم نقل كافة المكونات في نحو عشرين حاوية متنقلة، مما يعكس كفاءة التصميم والتنفيذ.
هذه المقاربة المبتكرة حققت نتائج مبهرة على عدة مستويات، نذكر منها:
1- توفير الوقت: اختصرنا أكثر من 50% من إجمالي وقت البناء مقارنة بالمحطات التقليدية.
2- خفض التكاليف: حققنا توفيرا يتجاوز 60% من تكاليف التركيب، و30% من تكاليف أعمال الهندسة المدنية.
3- التكنولوجيا المتقدمة: اعتمدنا منظومة التحكم الآلي مع المراقبة السحابية، مما يساهم في تخفيض كلفة الصيانة بشكل ملحوظ.
إن هذا المشروع الريادي في مجال التعاون يمثل نقطة انطلاق واعدة نحو آفاق أرحب. فنحن نتطلع إلى أن يكون هذا النموذج الفريد للشراكة حجر الأساس لمنظومة متكاملة في مجال تحلية مياه البحر في وطننا العزيز. هذه الشراكة الاستراتيجية لا تقتصر على مجرد نقل التكنولوجيا، بل تمتد لتشمل تبادلا عميقا للمعرفة والخبرات في تشغيل وصيانة محطات التحلية. ومن خلال هذا التعاون المثمر، نسعى جاهدين لبناء قدراتنا الذاتية وتطوير تقنيات مبتكرة ومستقلة في مجال تحلية المياه، مما سيعزز من استقلاليتنا التكنولوجية ويدفع عجلة التنمية المستدامة في بلادنا.
وفي الوقت ذاته، تنفتح أمام شركائنا الصينيين فرص استثنائية للتوسع على الصعيد الدولي. فمن خلال هذه الشراكة، يمكنهم الولوج إلى أسواق جديدة واكتساب خبرات قيّمة في بيئات متنوعة. هذا النموذج التعاوني يجسد بحق مفهوم الشراكة المربحة للطرفين. فهو يمزج بين الخبرات التقنية المتقدمة والمعرفة المحلية العميقة، مما يخلق قيمة مضافة فريدة لكلا الجانبين. وبهذا، نرسم معا ملامح مستقبل مشرق، نساهم من خلاله في حل تحديات المياه العالمية، ونفتح آفاقا جديدة للابتكار والنمو المستدام.
إن هذه الشراكة الاستراتيجية لا تمثل فقط نجاحا اقتصاديا، بل هي نموذج يحتذى به في التعاون الدولي، يسهم في بناء جسور التفاهم والتقدم المشترك بين الشعوب والأمم.
تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News