“واحة المياه المتجمدة” للمخرج رؤوف الصباحي.. عطب التشخيص وخدش اللوحة
الغمزة أفضل…
يطفو في الذهن سؤال عند مشاهدة وإعادة مشاهدة الأفلام المغربية، التي يخرجها سينمائيون طموحون وأكفاء: لماذا يلحون بالكثير من الجهد في قول وتصوير ما يمكن تحقيقه بجهد أقل وذكاء أكثر؟ هل يعود الأمر إلى “رؤية” المخرج، والرؤية هنا بالمعنى الذي يقصده المفكر جون بيرجر John Berger في كتابه الذي أسس لدراسات الثقافة البصرية Ways of Seeing؟ أم أنه يتعلق بثقافة الإلحاح والتكرار في بناء المعنى في مجتمع بأكمله؟ أم أن المسألة تتعلق بسياق وجودي حيث لا تتوافق آلة صناعة الفيلم وبناؤه مع الجمهور أو المشاهد حيث لا يكونا على نفس مستوى التفكير؟
عن عنوان الفيلم
من إنتاج سنة 2022، كتب رؤوف الصباحي وأخرج فيلمه الأخير “واحة المياه المتجمدة” بعناية كبيرة وبحساسية بادية. تحمل شخصيتان رئيسيتان – هما طبيبة مستعجلات “فضيلة”، تشخيص الممثلة نسرين الراضي، وممرض رئيسي “قادر”، تشخيص الممثل أحمد حمود – على عاتقيهما ثقل الحكاية ومعاناة النفس والجسم، في وسط يضادهما في كل شيء – الأب الأعمى المقبل على الحياة – وفي فضاء كثيف الرمزية والتعبير – البيت، إلى درجة تتحدى التشخيص وتهزمه من حيث الغنى والتنوع البصري.
هل يتغلب الحب على مشاكل الزواج والعمل والمرض؟ تلك بشكل اختزالي تيمة الفيلم في نظر كتابات صحافية ونقدية تناولت الفيلم غداة عرضه في المغرب وخارجه.
قد يتساءل المشاهد الساذج كيف تتجمد المياه في الصحراء؟ كيف يصبح المستحيل ممكناً؟ لربما يحدث ذلك من خلال المعاناة، أو من خلال الرقص أو من خلال التجاوز إلى واقع مختلف؟
ولكن،
هل نرى في الفيلم الواقع كما هو أم أننا نرى واقعا خاصا بزوج مرتبط بالحب والمهنة والمصير والأسرة؟
ماذا تلتقط الكاميرا مما نحاول إدراكه من خلال الفيلم، ومن خلال الرسالة التي يحاول المخرج نقلها؟
مسار حكاية
تبدو القصة معقدة وبسيطة في الوقت نفسه. إنها مجرد أوبرا كما يقول فيليب، بطل رواية أ. م. فوستر “حيث تخشى الملائكة الدهس” “”Where angels fear to tread، وهي الرواية التي تم اقتباسها للسينما.
طيلة الفيلم، ظل حبل الحكي يظهر ويختفي، فقد كانت طريقة بناء الشخصيات عبر سيرورة الحكاية جيدة؛ لكن التساؤلات حول شخصية الزوجة ودورها في البنية الدرامية ظلت تلح وتفرض نفسها على المشاهد اليقظ.
اللوحة الفنية المخدوشة
نتذكر في هذا السياق من السينما العالمية فيلم: Far from the madding crowd، من إخراج Thomas Vinterberg وتشخيص دور البطلة ل Carey Mulligan، حيث التعبير القوي والمبدع عن معاناة بطلة الفيلم المرأة العاملة، التي تتولى إدارة ثروة زوجها المتوفى، ضد ذكورية تبخيسية للأنثى، مقابل المشهد حيث تظهر بطلة فيلم “واحة المياه المتجمدة” في الحانة باعتبارها امرأة مستقلة وقوية الشخصية، لكن الأداء والمضمون لم يكن لا ملائما ولا قويا شكلا ومضمونا، أداء وحوارا وتصويرا.
لا شك في أن فيلم “واحة المياه المتجمدة” لصاحب فيلم “حياة” من منظور الثقافة البصرية لوحة فنية تشكيلية وفوتوغرافية رائعة؛ لكنني أعتقد أن اللوحة تم خدشها بشكل قوي بسبب تكوين الشخصيات وبنائها، وبإدارة الممثلين إن كانوا قابلين لذلك بشكل عميق وسلس ولين ومهني.
في 15 يونيو 1985، تعرضت لوحة “داناي” لرامبرانت القرن السابع عشر لهجوم في متحف الهيرمتاج في روسيا. ألقى رجل، وصف لاحقًا بالمجنون، حمض الكبريتيك على القماش أولاً ثم قطعه مرتين بسكين. تم تدمير جزء اللوحة الوسط بأكمله تقريبًا. نسوق هذه المعلومة لأننا نعتقد بأن فيلم “واحة المياه المتجمدة”، الذي نرى أنه كان ليكون لوحة فنية، تم تدمير نسقيته الجمالية، بين البصري والسمعي، من قبل شخصيتين رئيسيتين، لم تكونا في مستوى عمق التساؤلات الوجودية وضياع المعنى في الفيلم الذي تطرحه الحكاية، ولا كانا في قلب عمق ومرارة المعاناة المقصودة. لنقل إن الشخصيتين الرئيسيتين في فيلم رؤوف الصباحي لم تكونا تؤديان دوريهما، وفقا لاستيعابٍ عميق ومتناغم لما يريده المخرج من عمق المعنى الجمالي والدلالي.
أين تكمن الخدشة؟
تطرح الطريقة التي تعاملت بها الممثلة مع دورها والشخصية التي أوكلت لها، خاصة إن كان هناك تفاعل ونقاش مع المخرج. وبعد تلقيها للتوجيهات الضرورية، تطرح تساؤلات عمن يكون المُقصِّر في بناء الفيلم وخدش جماليته الممكنة وعن مكان العطب في ذلك، إن كان في اختيار الممثلين أصلا Casting، أم في إدارتهم أم في مكان آخر.
لقد كان القصور الإبداعي والافتعال الأدائي والتموضع خارج المناخ النفسي والدرامي للشخصية هو الظفر الخادش لجمالية واحة جميلة شكل شح مياه الإبداع في تشخيصها بردا قارسا حال دون ترجمة اللامرئي إلى مرئي فعليا في فيلم جماليته ظلت كامنة رغم محاولات “إخراجها”.
هنا للمقارنة، التي أعترف بأنها لا تستقيم، أمثلة عن شخصيات في أفلام وممثلات يسمون بها بتفاصيل التفاصيل من حيث، اللباس والماكياج والتعبير الجسدي والإيماءات والحوارات الراقية العميقة المعنى والايحاءات، في مواقف وفضاءات بصرية وتحت مناخات موسيقية، ترفع المشاهد نحو عوالم المتعة والدهشة والقبض على المعنى بالحس والاحساس، وبالعقل والفهم بعد ذلك:
الحب والتباين الاجتماعي في فيلم “جين إير” Jane Eyre إخراج Robert Young
الإشباع والبحث عن المعنى في فيلم “عينان مغلقتان بسعة” Eyes wide shut إخراج Stanley Kubrick.
هوس السلطة وقسوة الخيانة وعُري الغيرة في فيلم “المستشار” The Counselor إخراج Ridley Scot.
وبيننا مبدعون ومبدعات
مفارقة موضوعتين مختلفتين في البنية الدرامية السينمائية غالبا ما تعملان بشكل جيد جداً إذا ما تم تلقيح البنية الدرامية بنفحة قوية – الأساليب تختلف على سبيل المثال بين حكيم بلعباس وفوزي بنسعيدي ولحسن زينون ومريم التوزاني… – ذات بعد إنساني جمالي فلسفي وسينمائي، ينبع من بين ثنايا العلاقات في نسيج السيناريو وهو مصورٌ وليس بما هو كامن فيه على الورق.
نستحضر هنا على سبيل المثال لا الحصر”
الممثلة نادية كوندا في فيلم “وليلي” لفوزي بنسعيدي،
والممثلة فاطمة بناصر في فيلم “عرق الشتا” لحكيم بلعباس،
النضال، الألم، الكآبة، القوة، الأخوة النسائية، الكفاح مشاعر متضاربة ومأساة في الطرف الأقصى؛ ذلك ما يعصر قدرات ومواهب وحرفية وخبرة ممثلات مثل: آن هاثاواي في فيلم Les Misérables، ومع ذلك تجدن وسيلة لتحمل عبء الشخصية المعقدة وأدائها بيسر جلي وواضح عند المشاهدة.
يبدو أن الإطراء غير الرصين ولا المُستحق والطلب المتكرر للعمل قد يفسد معنى الإبداع الذي يتأسس على الاشتغال على الذات دون توقف، وعلى حُسن الإصغاء لدى بعض محترفي الفن في بلادنا، وتلك إحدى واجهات عطب الإبداع في الصناعات الفنية والثقافية ببلادنا.
كوريغرافيا الدوران، التصوف!
دوران الزوج ودوران الكرة الأرضية Dancing Billy Elliot
رقص Billy ضد كل الظروف في فيلم Dancing Billy Elliot.
عندما يمل الإنسان من الرقص، قد يكون قد تعب من الحياة. لقد كان بيلي حاسمًا في رقصه باليه والوقوف ضد كل القوى العاملة، مع كل الآثار السياسية والاجتماعية التي كانت يحملها ذلك في الثمانينيات من القرن الماضي. كان بيلي يرقص ويدور ويتجاوز أو هكذا كان يعتقد… كان يريد أن تتحرك الأشياء، كان يريد التغيير، وكان يريد التأكد من أن الأرض تدور. وكما سقط وكما كان يكافح مع المرض أكثر، وجد وسيلة لإصلاح صنبور الحمام.
رؤوف الصباحي
صنع رؤوف الصباحي قطعة سينمائية جميلة، وله تحية صادقة من أجل ذلك. لربما يجب أن تعكس أفلامه المقبلة سيطرة أكبر وأشد على شخصياته وعلى أدائها، وعلى الحبكة ومساراتها؛ فقد يكون الواقع عبر الفيلم وهو تام كقطعة فنية أكثر مما ندرك، وأقل مما نرى.
تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News