مفكرون يدرسون متن الجراري .. طلائعيٌّ وسّع مفهوم الأدب المغربي
في الذكرى الأولى لرحيل عباس الجراري، الأكاديمي والشاعر وعضو أكاديمية المملكة الذي ترأس لجنتها الخاصة بـ”الملحون” وارتبطت بعطائه صفة “عميد الأدب المغربي”، نظّمت أكاديمية المملكة المغربية، اليوم الخميس، بمقرّها بالرباط، ندوة مهداة إليه بعنوان “الثقافة والتراث بين الخصوصية والكونية”.
وقالت حميدة الصائغ، رفيقة درب عميد الأدب المغربي عباس الجراري، إن هذه “ظروف عصيبة، سمتها تخليد ذكرى رحيل غال، نذر حياته لخدمة الثقافة في وطنه العزيز، وعاش لإحياء تراثه على تنوع تشكيلاته ومصادره وغميس إنتاجاته، فاهتم في بداياته بالأدب الشعبي، ونشر مقالات عن الفلكلور بـ’دعوة الحق’، ثم جاءت رسالة الماجستير عن أبي الربيع سليمان الموحدي، وكلّل بحثَه بالدكتُوراه من كلية آداب جامعة القاهرة، بموضوع ‘الزجل في المغرب: القصيدة’؛ فكانت فاتحة عظيمة لمسار صعب”.
وتابعت الشاهدة: “عانى وعانيت معه الكثير، في وقت كان ينظر لدرس الأدب المغربي (الشعبي) بنظرة دونية وتسفيهية، وكان يدعو إلى الاهتمام بالإنتاج الأمازيغي، دون أن يعبأ بالمنتقدين الذين اعتبروا ذلك تشجيعا للفرقة والميز؛ ومثّل الثقافة المغربية والشخصية الوطنية خير تمثيل”.
وتحدّثت حميدة الصائغ عن عون الملكين الحسن الثاني ثم محمد السادس، الذي أثمر إصدار “موسوعة الملحون” في أحد عشر مجلدا، صدّر الفقيد كلا منها بدراسة مستفيضة، وتحليل للشعر، وتقييم للغة.
وبعد مسار عمر في البحث والتأطير وجمع الجهود قالت رفيقة درب عميد الأدب المغربي: “الحمد لله أن اقتنع الجميع بأهمية التراث اللامادي، ودوره الكبير في بناء الشعوب وترسيخ مكانتها بين الأمم؛ فكانت النهضة القوية والدفاع المستميت، حتى انتهى الأمر إلى اعتراف اليونسكو بالملحون تراثا إنسانيا مغربيا صرفا”.
ولم تقتصر اهتمامات الجراري على هذا الجانب، بل كان يصول ويجول في كل المجالات الأدبية؛ فهو “الباحث المحقق، والكاتب المدقق، والشاعر المفلق، والفقيه الحصيف، والسياسي المحنك، والدبلوماسي المتمرس؛ اختاره جلالة الملك الحسن الثاني لنشاط كبير في حوار الديانات والتقريب بين المذاهب والتعايش والحفاظ على السلم، مما شاركه فيه المستشار الملكي أندري أزولاي”، عضو أكاديمية المملكة الذي كان حاضرا في قاعة إحياء الذكرى الأولى لرحيل الجراري الذي كان مستشارا للملكَين المغربيّين.
وكشفت حميدة الصائغ أن الأجل “لم يمهل الفقيد ليخرج كل ما كان مخططا له”، فقد خلّف كثيرا، وأوصى بمكتبته لملك البلاد وجعلها رهن إشارته، وقد ألحقها الملك محمد السادس بالخزانة الملكية الحسنية، “وهي التفاتة مولوية كريمة، تعمّم الاستفادة منها”.
عبد العزيز بن عثمان التويجري، المدير العام السابق لمنظمة “الإيسيسكو”، ذكر أن الجراري “أحد أعضاء الأكاديمية الكبار، ومفكريها الأخيار، عميد الأدب المغربي، صاحب المؤلفات الغزيرة والمفيدة في الفكر والأدب والفنون والتراث”، وكان “خير من عبّر عن العلاقة بين الخصوصية والكونية، في مجالي الثقافة والتراث، وجلى ذلك بشرح عميق، وبصيرة، وفهم رشيد”.
واستعاد التويجري سنوات من المعارضات الشعرية الفصيحة، التي كانت تجود بها قريحتهما، حول أسفار، وطرف حياة، ويوميّ الناس، وختم كلمته بمقطع من قصيدة نعى بها صديقه في الفكر والحياة، الذي جمعه به إعداد الإستراتيجيات والتخطيطات الموجهة إلى العالم الإسلامي، ثلاثة عقود.
واهتمت كلمة فاروق النبهان، عضو أكاديمية المملكة، التي ألقاها نجله، بـ”الشخصية الإيمانية لعباس جراري وشموخه العلمي وأخلاقياته الفارهة”، وأردفت: “كان شخصية علمية أصيلة، في تربيته الإيمانية والروحية والعلمية، وتمسكه بثقافته الإسلامية (…) كنا نسافر معا ونحضر المؤتمرات العلمية في المغرب وخارجه، وهو ذو وداعة محببة، كنت أحترم قناعته ويحترم قناعتي (…) وكان وفيا لتراث أسرته وإحيائه من خلال النادي الجراري الثقافي الذي يجمع فيه كثيرا من رموز الثقافة المغربية، وكان له فضل تكوين الكثير من الكفاءات العلمية التي أغنت الثقافة المغربية”.
وتابع النبهان: “أهم ما يلفت انتباهي أثره الفكري والتربوي في طلبته الذين كانوا أوفياء له، وكان حاضرا في كل نشاط علمي بالجامعات والجمعيات الثقافية؛ وكان ذا التزام عاقل موضوعي بالتراث الإسلامي، والالتزام به والعمل في إحيائه والنهوض به، وكان يلتزم بالشخصية العلمية، ويعتز بشخصيته المغربية في كل المواقف”.
أحمد بوكوس، عضو أكاديمية المملكة وعميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، تحدث من جهته عن عباس الجَرَّاري، وليس الجِراري؛ “الساهر على مختلف جوانب الثقافة المغربية”، قبل دفاعه في عرضه عن “مقاربة حداثية للتراث، تجعله نتاجا تاريخيا خاضعا للنقد؛ فالتراث جزء لا يتجزأ من الثقافة كما ورد تعريفها في دستور المملكة، ولا يخضع لمنطق الثنائية؛ أي الحداثة في مقابل التقليد أو الكونية في مقابل الخصوصية؛ فهو نتاج الخبرات المستمرة المنتجة بين الأمس والغد، ويحمل قيما إنسانية وجماليات تميزه، عبر جمالية اللهجات الأمازيغية واللهجات العربية واللغة العربية الفصيحة كذلك”.
أحمد شحلان، عضو أكاديمية المملكة، تطرق إلى عباس الجراري بوصفه من أبرز الباحثين المعتنين بـ”فن الملحون العريق”، وعرّف بمشروع جديد اقترحه، ومن المرتقب أن تنهض به أكاديمية المملكة المغربية هو “معجم لغة الملحون”؛ لأن “شيئا واحدا لم يسعد به هذا الفن، وهو وضع معجم عام شامل، باستثناء ما محمد قدمه الفاسي وعباس الجراري، ومعجم المصطلحات الموسيقية للملحون لعبد العزيز بنعبد الجليل”.
من جهته تطرق عبد الله إبراهيم، ناقد وأكاديمي عراقي، عن دفاع عباس الجراري “بشجاعة عن الثقافة”. بينما تحدث أستاذ التعليم العالي عبد الوهاب الفيلالي عن اهتمام الفقيد الجراري الدائم “بكفاءات التراث الانفتاحية على العصر، وطاقاته الإبداعية المتعددة والقوية”، ومن ذلك الملحون الذي هو “وجه من وجوه الثابت المنفتح في الثقافة المغربية”.
مبارك ربيع، عضو أكاديمية المملكة المغربية، علق على موضوع الندوة قائلا إنه “لا تناقض بين الخصوصية والكونية، إذا فهمناها الهوية متحولة متغيرة”؛ فـ”هوية المغربي الآن في القرية والحاضرة، وفي القرن العشرين والقرن التاسع عشر (ليست نفسها)”، وزاد: “المغربي هو المغربي نفسه، لكنه ليس هو. الهوية بالتصور المطلق غير موجودة، وهذا فهم خاطئ يدفع لأخطاء في التصورات والسلوك، وأدافع عن مفهوم الشخصية، بدل الهوية المتحولة المتغيرة، فلا شيء ثابت تماما، حتى ولو كان استعمال الهوية مغريا كلفظ، نظرا لمقبوليته”.
وذكر الروائي والأكاديمي أن “الكونية تتشكل في التفاعل”، ثم تساءل: “هل يجب أن يسعى المبدع والفنان إلى الكونية؟”، ليجيب: “ليس عليه الالتفات إليها رغم المحفزات. ينبغي أن يكون العمل الإبداعي مستقلا عن كل ما عداه، بما في ذلك العوامل الإبداعية لصاحبه. هذا المثال، هل ننشُدُه؟ لِمَ لا”.
المستعرب الإسباني غونزالو فرنانديز باريلا قدم، من جهته في الندوة المهداة إلى روح الجراري، “تاريخ الأدب المغربي”، منذ “النبوغ المغربي” لعبد الله كنون الذي أرّخ لأدبه العربي في مقابل دعاوى الاستعمار، وكان مغذّى بالإيديولوجية الوطنية ضد توسع الفرنسية بالسياسة الاستعمارية و”سياساتها البربرية”، وحُظِر بيعه وتوزيعه من طرف السلطات الفرنسية، و”ترجم إلى الإسبانية برعاية السلطات الاستعمارية الإسبانية، وحصل جرّاءه على الدكتوراه الفخرية بمدريد”.
مثقف مغربي آخر استحضره باريلا هو “محمد بن عزوز حكيم، الذي ينتمي إلى الشمال أيضا، ونشر سنة 1951 نبذة عن تاريخ الأدب المغربي بالإسبانية، و200 كتاب بالإسبانية، وهذا ما يعتبر عادة بداية أدب مغربي بالإسبانية (…) وله قسم عند أدب البربر واليهود”.
ثم تطرق المتحدث إلى عباس الجراري؛ فهو “من الباحثين الذين أعطوا مساحة أكثر اتساعا وتنوعا للأدب المغربي، بعد نقاشات واسعة بعد الاستقلال عن اللغة والهوية، وظهور مصطلحات حول ظاهرة جديد لمؤلفين شمال إفريقيين باللغة الفرنسية؛ مع تفاعلات كان ممن أدلوا بها التونسي ألبير ميمي في أنطولوجيتِه، و’مجلة أنفاس’ في عددها الخاص بالكتابة الأدبية الشابة باللغة العربية والفرنسية، الذي قدّمه عبد الكبير الخطيبي ومحمد برادة، مع اعتراف مهم بالإرث الأمازيغي (لم يكن فاصلا) لأن النقاشات المنصفة لهذا الإرث انتظرت القرن 21 لتتمّ”؛ لكن المهم هو أن هذه الكتابات بعد الاستقلال بينت أن “الأدب المغربي لم يعدد محددا بلغة معينة أو مكان معين”.
الناقد والأكاديمي نجيب العوفي تحدث بدوره عن كتاب “النبوغ المغربي في الأدب العربي” الذي كان كتابا حدثا؛ “وما قام به عبد الله كنون عمل تنوء به العصبة من أولي العزم، بمنهجية تحقيبية بانورامية بالأساس، تقدم التاريخ الأدبي في مسار التاريخ العام، بعين فقيه متبحر طُلَعة، لكنوز الأدب المغربي، بباراديغم تأسيسي تجديدي، ووعي سلفي متنور”.
وزاد العوفي: “باحث آخر عاش في قلب جدلية الثبات والتحول والأصالة والمعاصرة هو عباس الجرّاري. هنا تنتقل كتابة تاريخ الأدب المغربي من الكرونولوجي إلى التفكير في الأدب المغربي والتنظير لظواهره وقضاياه، قديمه وجديدة، بالسؤال المعرفي الذي يتوخى اختراق قشرة التاريخ إلى مضمر التاريخ، من تاريخ الأدب إلى التاريخ النقدي للأدب، وهو باحث مفتون بالأسئلة الثقافية العميقة للمغرب (…) ونسلت من معطفه الأكاديمي الوارف أجيال جامعية تترى، صوب آفاق أخرى جديدة، لعلها تشكل إبدالات جديدة للإبدالات التي كانت مشدودة لسلطة المصطلح والتاريخ العام للأدب”.
الكاتب والمترجم عبد الجليل ناظم بدأ كلمته باستشهاد بما قاله عباس الجراري في كلية الآداب بالرباط عند تكريمه سنة 2000، حين أكد أن مسيرَهُ العلمي والثقافي كان استمرارا لجيل الرواد الذين تحمّلوا تبعات نهضة المغرب الحديث؛ “وبناء على هذا التنبيه فإن معنى ما أنجزه سيكون مزدوجا بين جيلين وموقفين، بين جيل التأسيس في ثلاثينيات القرن الماضي وجيل الاستقلال”.
وتابع ناظم: “يوجد فرق واضح للعيان بين الجيلين من حيث الارتباط بسياسة دفاعية عند الجيل المؤسس، والانخراط في الزمن الحديث عند جيل الاستقلال، وهي استمرارية غير مرئية أحيانا؛ فالأول كان يستجيب لمتطلبات مواجهة الآخر لتأكيد هوية كانت معرضة للخطر، بخطابي التاريخ والأدب، ومنه المختار السوسي وعبد الله كنون ومحمد داود ومحمد الفاسي؛ الذين وضعوا أمامنا هذا التراث، لنلمس الوحدة التاريخية والأدبية المستجيبة لسؤال الحاضر”.
هذه المدرسة “استمرت في منجز عباس الجراري، وتطلعت إلى الحاجة الأدبية والتاريخية لرمز يستجيب ويضيء سؤال الحاضر (…) وتجلى في اكتشاف واحد من أعلام المغرب وهو الحسن اليوسي في كتاب الجراري (عبقرية اليوسي)”، ثم ختم بقوله إن الفقيد “كان منصتا للمستجدات الكونية، لا جيل التأسيس فقط، ومواقفه لم تكن بعيدة عن الجيل الثاني”، ومن أمثلة ذلك “موقفاه من الحوار مع الغرب، ومن مسألة التراث، اللذان يعكسان موقفا نقديا”.
محمد نور الدين أفاية، عضو أكاديمية المملكة المغربية، ذكر أن عباساً الجراري أخرج الأدب “من إطاره العالم والنخبوي إلى الأدب الشعبي بمعناه الواسع، واهتم مركزيا في مرحلة بالقصيدة والملحون والأندلسي”.
وعاد أفاية إلى كنون الذي عبّر “عن نوع من الوطنية الأدبية، ووعي تراجيدي بالتفاوت بين قوة الإبداع الأدبي المشرقي وما انتبه إليه من ضعف الأدب المغربي، وكتاب ‘أحاديث في الأدب المغربي الحديث’ واضحٌ في ما خلص إليه كنون بأننا لا نملك في العمق.
بعد هذا كانت “لحظة عباس الجراري لحظة فاصلة، بالانتقال من الإطار الوطني الضيق إلى توسيع مفهوم الأدب المغربي ليشمل الأدب الشعبي الأمازيغي وقصيدة الملحون والآداب الأخرى”، وفق المتحدث، ثم ختم منبها إلى “أحكام متسرعة جعلت نخبا طلائعية تنعت بدرجة من التعسف بالمحافظة والتقليدية، في حين هي في العمق نخب تنويرية تدافع عن الإبداع، وتعليم المرأة، وإدراج الفن في المؤسسات… وحان الوقت لإعادة الاعتبار لهؤلاء الناس؛ لمحاسبة متنهم ونصوصهم، ووضع إسهامهم ضمن مسارٍ طويل من الأدب المغربي الحديث”.
تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News