المصباحي يقيم “السعادة عند ابن رشد”
في مسلك الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، ألقى المفكر المغربي محمد المصباحي، في شهر دجنبر الجاري، درسا افتتاحيا بعنوان “مقامات السعادة عند ابن رشد”.
ووفق تقرير الدرس الافتتاحي، فإن المصباحي تطرّق لثلاث مقامات من السعادة هي: “بين السعادة الشرعية التي سماها السعادة المشتركة، والسعادة السياسية والأخلاقية التي تدور حول سعادة مواطني الدولة الفاضلة، وأخيرا السعادة الفلسفية ذات الطابع الميتافيزيقي التي لا يصل لها إلا الفلاسفة عند اتصالهم بالعقل الفعال”.
وبعد أن أشار المصباحي في بداية درسه الافتتاحي إلى أن الغاية من محاضرته ليست هي التنويه بالسعادة لأنها أمر إلهي فوق المدح والإطراء، ولأنها مبدأ الحياة البشرية وغايتها، شرع في تحليل المقام الأول للسعادة، وهو السعادة الشرعية التي يسميها ابن رشد “السعادة المشتركة للجميع”، فلاسفة وجمهورا، وجميع الخلق أجمعين.
تتميز السعادة الشرعية في نظر المحاضر “أولا بأنها تجمع بين السعادتين الدنيوية والأخروية، وثانيا باندراجها تحت نظرية الحق الرشدية التي تتفرع إلى “العلم الحق” وهو معرفة الله عز وجل ومخلوقاته ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي، وإلى “العمل الحق” وهو الامتثال للأفعال التي تأمر بها الشريعة والتي تفيد السعادة، وتجنب الأفعال التي تنهى عنها الشريعة والتي تؤدي إلى الشقاء الأخروي”.
والسعادة الشرعية، وفق المصدر ذاته، “عامة حتى على الفلاسفة؛ لأنه إنما يتم وجودهم وتحصل سعادتهم بمشاركة الصنف العام من الناس. غير أنه يوصي بعدم تأويل الشريعة مخافة تحريفها وإبطال المقصود منها وهي السعادة، واتباع الطرق التي تقول بها بالمقدار الذي نصَّ عليه الشرع بدون زيادة أو نقصان. وفي هذا الصدد كان ابن رشد حريصا على إثبات تفوّق الشريعة الإسلامية على باقي الشرائع بإطلاق سواء على الشرائع المفيدة للعلم والعمل المفيدين للسعادة، ولذلك كانت خاتمة الشرائع، أو على مستوى التمثيلات للسعادة في الجنة والشقاء في النار، إذ التمثيل الذي في الشريعة الإسلامية أتم إفهاماً لأكثر الناس، وأكثر تحريكاً لنفوسهم للسعي نحو السعادة”.
أما “السعادة السياسية والأخلاقية”، فـ”أول ما يسجله بشأنها أنها تنفصل عن السعادة الشرعية بكونها سعادة مدنية دنيوية، وأنها ثانيا مرتبطة بالمدينة (الدولة)، وأن صناعة المدينة، أي علم السياسة، هي أفضل الصنائع لأن غايتها هي أفضل الغايات وهي صناعة السعادة لجميع أهل المدينة بإصلاح نفوسهم، في حين إن صناعة الطب لا تصلح إلى أجسادهم؛ رابعاً أن حصول السعادة بدون المدينة مستحيل، بدليل أن الحيوان لا يُسمَّى سعيدا لأنه لا يقوم بأي بفعل من أفعال المدينة، وكذلك الطفل لأنه لم يكمل بعد لكي يشارك في بناء الدولة”.
هذا أفضى بالمصباحي إلى “انتقاد من يدّعي من الفلاسفة أن السعادة الحقة لا تكون إلا “للمتوحد” (ابن باجة)، لأنه بدون سياسة، بدون دولة، لا يمكن للفيلسوف تحصيل سعادته لأن المدينة هي التي تقدم له ما يحقق به سعادته؛ وثانيا لأنه إذا كانت السعادة مرتبطة بالخير، واللذة، والغنى، والكرامة، والحكمة، فإنه لا يمكن تصور سعيد لا يتقاسم هذه الخيرات مع غيره”.
ثم تساءل المفكر: “هل يمكن إقامة السعادة بين أهل المدينة الفاضلة على أساس العدل والمساواة؟”، ليجيب: “من جهة بأن سعادة المدينة بما أنها سعادة سياسية، فلا بد أن تعم كل الناس، إلا أن هذه العمومية، من جهة ثانية، لا تكون بمقدار متساوٍ، وإنما بتفاضل مقاديرها حسب تفاوت طباع الفئات الاجتماعية. ويبقى أن أفضل تعريف للسعادة بالنسبة لابن رشد هو تعريفها بالفضيلة، لكونها فعلا من أفعال العقل. ومن المعلوم أن وجود كل إنسان بما هو إنسان، إنما هو بالعقل، لأنه أنبل ما فيه. أما السعادة بغير الفضيلة والعقل فهي بنوع ثانٍ. وفي هذا السياق ربط السعادة أحيانا بالرأي”.
و”بالإضافة إلى تعريف السعادة بالفضيلة، التي هي ثمرة العقل”، يتابع التقرير، “أشار المحاضر إلى عدة تعاريف ذكرها ابن رشد كتعريفها بسيرة المرء الجامعة للخيرات النفسية، ككرم الحسَب وكثرة الإِخوان والأَولاد واليسار وحسن الفعل والشيخوخة الصالحة، وتعريفها بالغِنَى الذي يدفع الأحزان، وبالصحة وباللذة، والكرامة، الخ”.
ومن أهم مقومات السعادة السياسية، “الصداقة؛ لأن الصديق هو ‘الآخر الذي هو أنت’، أولاً لأن السعيد ‘يكتسب بصديقه ما لا يستطيع أن يكتسبه بذاته’، وثانيا لأنه لا معنى للسعادة التي لا يتقاسم أصحابها الحياة اللذيذة مع الخلاّن والأصدقاء ويشاركون حياتهم معهم، وهو ما يعزز تعريف الإنسان بأنه مدني بالطبع. ومن الواضح أنه إذا كانت الحياة السعيدة هي الحياة اللذيذة، فإن أتمّ لذة هي لذة الفلسفة، لأن لها ‘لذّاتٍ عجيبة’”.
أما الجنس الثالث من السعادة، وهي السعادة الفلسفية، فقد “اعتبرها المحاضر جوهر تفكير أبي الوليد في هذا الموضوع إذ فيها قدّم جهدا نظريا متميزاً. وتُحيل السعادة الفلسفية على جهاز من المفاهيم كالكمال، والعقل، والمعرفة، والخير، والفضيلة، والاتحاد؛ لكن المقوم الأساسي لتعريفها هو الاتصال الذي هو بمثابة الاسم المرادف للسعادة”.
واتصال الإنسان بالعقل الفعال نوعان؛ “الاتصال الأول معرفي ويكون بوساطة الخيال الذي ينبثق عنه العقل بالفعل الذي يحقق السعادة العلمية؛ الاتصال الأخير للإنسان بالعقل الفعال يكون مباشرا بدون وساطة الخيال، وهو الذي يسميه المحاضر بالاتصال الميتافيزيقي الذي يحقق به الفيلسوف السعادة القصوى التي تختلف عن السعادة الشرعية المشتركة، وعن السعادة السياسية الأخلاقية المتفاوتة، وعن السعادة المعرفية”.
ويواصل الدرس موضحا أنه “كان على ابن رشد في البداية أن يُثبت إمكان هذا الاتصال المباشر بالعقل الفعال بحجة أنه لا يمكن نفي الاتصال به وإلا كانت الطبيعة تصنع باطلا، لأنها تكون قد خلقت عقلا قابلا للمعرفة وجعلت الإنسان في نفس الوقت غير قادر على معرفته. كما كان عليه أن يحل مسألة ثانية وهي هل يتم اتصال العقل النظري بالعقل الفعال وهو ممتلئ بالمعرفة أم بعد أن يتم إفراغه منها؟ فكانت إجابة ابن رشد تميل إلى الاحتمال الثاني، أي إحداث استعداد جديد في العقل النظري غير الاستعداد المهيأ لقبول المعرفة النظرية، وهذا الاستعداد كما يقول أبو الوليد شبيه بالاستعداد الذي يحدث عند النظر إلى الألوان، لا بقوة من القوى الفكرية. بما أن هذا الاتصال الميتافيزيقي هو عبارة عن رؤية وليس معرفة استدلالية. والسر في قدرة الفلاسفة على تحصيل السعادة القصوى هو أنهم يمتلكون شوقا لتحصيل كمالهم الأخير، هذا الشوق الذي يدفعهم أولا إلى تحويل “عقلهم بالقوة” إلى “عقل بالفعل”، ثم تحويل عقلهم بالفعل إلى “عقل مستفاد” تكون صورته هي العقل الفعال”.
بالتالي، “سعادتهم ليست نتيجة إشراق مفاجئ كما هو الحال بالنسبة للمتصوفة، بل هي حصيلة جهد معرفي متواصل وشاق ينتقل بالنفس من مرتبة الكمال الطبيعي إلى الكمال المدني وإلى الكمال العلمي فالكمال الميتافيزيقي. وهنا لا بد من الإشارة، يوضح المحاضر، أن مأتى لذة الفيلسوف هي الحكمة، وهي لذيذة جداً إلا أنها لا تكون دائمة، لأن الإنسان لا يعقل بذاته، وإنما بعقل هو فيه”.
وفي نهاية الدرس الافتتاحي بمكناس، استخلص الأكاديمي الذي خرّج أجيالا من المتخصصين في الفلسفة خلاصات، أولاها “أنه بما أن السعادة في النفس مثل الصحة في البدن، فعلى النفس أن تتخلص من الشرور والمظالم والمنغصات، وأن تتقوى بالفضائل والخيرات لكي تصبح سعيدة، شأنها في ذلك شأن صحة البدن التي تتطلب الغذاء والدواء والرياضة”.
ثاني الخلاصات أنه “إذا كانت للصحة البدنية صناعة واحدة هي صناعة الطب، فإن للصحة النفسية، التي هي السعادة، صناعتين هما الشريعة والفلسفة. وإذا كانت صناعة الشريعة تنظر إلى السعداء من حيث هم مؤمنون، فإن الفلسفة تنظر إليهم كما يقول ابن رشد ‘من جهة أنهم أناس فقط’”.
ثالث الخلاصات تقول: “إذا كان ابن رشد قد دافع عن حق واحد، فإنه بالنسبة لنظرية السعادة دافع عن أكثر من معنى واحد لها: كالسعادة الشرعية، والسعادة السياسية، والسعادة العلمية، والسعادة الميتافيزيقية”، ليخلص بعدها إلى أن “السعادة ليست مجرد حال يمر بها الإنسان، بل هي فعل أو مسلسل أفعال، مما يدل على أنها بحثٌ عنها بوصفها أعز ما يُطلب من الحياة، وفتحا من فتوحات الإنسان”، ثم ختم بقول: “أما في الأزمنة الحديثة فقد قام كانط بثورة كوبرنيكية بصدد السعادة، بفكّ ارتباطها أولا بالعقل وربطها بالخيال، وفكّ ارتباطها ثانياً بالأخلاق، لأنه بالنسبة له لا علاقة للسعادة بالواجب الأخلاقي”.
تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News