كائن أسطوري يهاجم اليابان .. فيلم “غودزيلا” يتحول إلى قضية دولة وشعب
غريبان يلتقيان في زمن الحرب والجوع في يابان 1945، غريبان لا يجمعهما شيء يحاولان بناء علاقة سليمة في ظروف صعبة تزداد سوءا؛ لأن أشباح الحرب لم تنقرض. (Godzilla Minus One 2023 من إخراج تاكاشي يامازاكي) غريبان يكتشفان من ماضيهما أن بينهما مشتركا كبيرا هو “البؤس والغربة”. لقد بصمت الحرب السابقة حياتهما إلى الأبد.
– أين أمي؟
يتلقى الرجل السؤال كصفعة. لا جواب للطفلة. من لا يفرح بما لديه يخسره. من هنا ينشأ تأنيب الضمير.
يجلس الربان الكاميكاز قبالة البحر ليرتاح، فيخرج له الخطر من قدامه. بينما ينتظر اليابانيون سقوط قنابل أمريكية من السماء صعد لهم غودزيلا من البحر، هكذا تطور الحدث من التربة التي تقف عليها الشخصية. يشعر المتلقي بتماسك الحكي زمكانيا.
يتصف السرد الحديث بتركيب من أنوية عديدة، غودزيلا نوع فيلمي هجين بثلاثة أبعاد، فيلم يمتزج فيه التاريخي والعلمي والعجائبي.
تاريخيا، تمت موضعة الحكاية منذ مطلع الفيلم في حقبة تفرض تفسير أسطورة غودزيلا في ضوء واقع تاريخي سياسي. هذا فيلم لتعليم تاريخ اليابان المأساوي من مدخل السوبر هيرو المشوق. هل يمكن أن تتحرر اليابان من قيم الساموراي الحربية بينما بحر الصين يغلي في 2024؟
علميا، يمنح استمرار تأثير التسمم الإشعاعي المترتب عن تفجير قنبلة هيروشيما الذرية آنية وحيوية لحكاية غودزيلا. (غودزيلا ديناصور ياباني)؟
عجائبيا، طفت تبعات التفجير النووي على شكل غول صناعي: أيقظ الانفجار أسماك الأعماق المختلفة، وهذا موضوع يغري المشاهدين.
غودزيلا فيلم عجائبي مشحون بطاقة تخييلية متولدة من سياق تاريخي، طاقة تجسم كوابيس الماضي. لقد تسببت التفجيرات في تشكل كائن عجيب من تفاعلات كيمياوية… يخرج غودزيلا من البحر احتراما لسَنَن متخيل كوني يعتبر أن “البحر هو أم جميع الكائنات الحية”، حسب هرمن كلاتش في كتابه “النشوء والارتقاء” (ترجمة عصام الدين حنفي ناصف، الوراق للنشر، بغداد 2015، ص 32).
وحش يقوم بمهمة ويعود إلى قاع البحر، وحش يتعافى من كل عنف مثل الغول الذي تنبت له رؤوس جديدة كلما قطع له رأس من الرؤوس. يرى المشاهدون الفيزياء الحديثة في مواجهة قوى مجهولة… اليابان منزوعة السلاح تواجه غولا… لا بدائل لديها. صار النقاش حول مشاركة اليابان في الحرب العالمية الثانية نقدا ذاتيا للبلد… كيف يبدأ بلد ما الحياة من جديد بعد حرب مدمرة؟
كيف يمكن التخلص من كائن أسطوري يهجم على قلب طوكيو ويحطم المباني العملاقة التي تشكل هوية المدن ويتسابق السياح لالتقاط صور بجانبها؟ هذا خطر داهم لا يمكن للتكنولوجيا الحديثة إيقافه.
في الفيلم نصف ساعة توثيق لمخلفات الحرب وساعة ونصف الساعة تخييل تكشف لنا تمظهرات الفزع من الحرب ورد الفعل المقاوم.
يبدو أن وحش غودزيلا في اليابان هو قضية دولة وشعب. ظهر الفيلم الأول منذ سبعين سنة في زمن الحرب الباردة. تناول تحديات كيف تواجه اليابان غودزيلا وهي دولة مهزومة منزوعة السلاح؟ كل استخدام للسلاح سيفسر من الاتحاد السوفياتي كإعلان حرب…
الفكرة جيدة والبعد البصري لها قوي؛ لكن التنفيذ متسرع مقارنة مثلا مع فيلم ستيفن سبيلبرغ “War of the Worlds” 2005. صحيح، تملك اليابان تاريخا عريقا في رسوم المانغا وقتال الساموراي؛ لكن لميزانية الإنتاج أثرها على جودة الأفلام.
تبدو ميزانية فيلم غودزيلا ضعيفة وجل الممثلين بموهبة متواضعة… لا يخفي هذا التقييم الفني الحقيقة التالية:
هذا فيلم ضعيف في التنفيذ تقنيا مقارنة بأفلام السوبر هيرو الأمريكي؛ لكن هذا “العمل الفني شاهد على عصره”، بتعبير جورج لوكاش. غونزيلا بطل خارق طويل العمر ولا يشيخ.
الدليل:
هذا فيلم تجاري له زبناء قارين ينتظرونه بشكل مستمر كأنه سلسلة. يصدر فيلم عن غودزيلا كل سنتين تقريبا منذ 1954؛ لأن الشركة المنتجة واثقة من الربح، وليس من العبقرية الفنية للمخرجين. صار الفيلم الأول نموذجا تجْري محاكاته.
في عام 2024، يشاهد فيلمان عن غودزيلا في القاعات العالمية، هذا الذي يتناوله المقال وفيلم (Godzilla x Kong : Le Nouvel Empire إخراج آدام وينغارد) عن صراع غودزيلا مع كينغ كونغ. يبدو أن المنتجين قد وقعوا على عرق الذهب وسينتجون أفلاما جديدة عن غودزيلا.
الربح مضمون.
لعرق الذهب هذا جذر تاريخي، بالنسبة لمجتمع الساموراي البطولة هي الحرب. الشرف هو أن تموت في الحرب. هذا هو براديغم الحرب اليابانية. كل شخص عاد من الحرب حيا هو جبان، ويتعرض للتشكيك في شرفه. بسبب انسحاب ونزول بطولي مشكوك فيه تعرض الربان الكاميكاز للعار.
يُغيّر الفيلم الجديد هذا البراديغم المميت.
يتحرك غودزيلا فتتصعد أسماك من القاع إلى سطح البحر… يطفو ماضي اليابان في شاطئ طوكيو… يقصده الطيار واثقا من النصر والبقاء على قيد الحياة.
لقد تم تغيير براديغم الحرب الياباني.
كائن وحيد يحتل الشاشة. إنسان ووحش وجها لوجه. تسحرنا الجاذبية البصرية للمواجهة بين المتناهي الصغر مع المتناهي الكبر… الغودزيلا في البحر شكل محدد واضح بعيد عن الزحام يحيط به فراغ لا نهائي.
من سينتصر؟
يقول منطق الحرب، حسب الجنرال كارل فون كلاوزفيتز: “ألق بخصمك أرضا قبل التحدث معه”. (عن الحرب، كارل فون كلاوزفيتز، ترجمة سليم شاكر الإمامي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، 1997. ص103). وطبعا، عندما تلقي بخصمك أرضا انتهى الكلام، لا ضرورة للمفاوضات.
لقد تم الانتقال من “قاتل لتموت وتحصل على الشرف إلى قاتل لتنتصر وتبقى حيا”.
الحياة أولا.
هذه ثورة ذهنية في منطق شعب الساموراي.
تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News