الإعدام .. عودة العقوبة يثير الجدل ومحامون وحقوقيون يفكون شيفرتها
مضى على تنفيذ آخر عقوبة إعدام في المغرب أزيد من ثلاثة عقود، ومع صدور أي حكم جديد بهذه العقوبة، يعود النقاش القديم الجديد للواجهة، بين مؤيد ومعارض لها.
لكن هذه المرة، بقوة كبيرة، إثر الجريمة البشعة التي راح ضحيتها الطالب بدر، الصيف الماضي، وكان بطلها “ولد الفشوش”، بعد انتشار مقطع فيديو يظهر من خلاله المتهم وهو يوجه ضربة قوية للضحية أسقطته أرضا، قبل أن يقوم بدهسه بالسيارة التي أزال لوحات ترقيمها لإخفاء هويته، حيث تعالت حينها مطالب شعبية، على مواقع التواصل الاجتماعي، مطالبة بإعدامه، وحين صدر الحكم تعالت من جديد مطالبة بتنفيذه، وسط جو من الرضى والارتياح، فيما تعالت بالمقابل أصوات الحقوقيين والمنظمات الحقوقية لإلغاء عقوبة الإعدام، التي تنتهك الحق في الحياة، من القانون الجنائي المغربي، واستبدالها بعقوبات أخرى رادعة..
فهل كان القضاء صائبا عند إصداره لهذه العقوبة رغم الجدل المجتمعي حولها، وكونها موقوفة التنفيذ منذ سنة 1993؟ وهل هي حقا عقوبة رادعة كما يعتبرها المؤيدون؟ وما هو التكييف القانوني لعدم تنفيذها؟ وهل سيعود المغرب أمام الضغط الشعبي ووجود جرائم بشعة لتنفيذ هذه العقوبة؟ وما المطلوب اليوم من المشرع المغربي؛ هل الانتصار لمطالب إلغائها أم استحضار عقوبات بديلة لها؟ وكيف يجري التعامل مع المحكومين بها، وهم ينتظرون حكما قد ينفذ في أي لحظة، أو يبقى موقوفا لسنوات طويلة ليتحول إلى حكم مؤبد؟
حكم الإعدام بالمغرب في أرقام
أشارت آخر الأرقام، في تقرير رسمي عن “حالة حقوق الإنسان بالمغرب لسنة 2022” للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، الصادر في أكتوبر 2023، إلى أن عدد المحكوم عليهم بالإعدام في المغرب بلغ، نهاية سنة 2022، ما مجموعه 83 شخصا، بينهم 3 فاق عمرهم 60 سنة، 81 ذكورا و02 إناث. كما أن هؤلاء صدرت أحكام نهائية في حق 54 منهم، وأحكام ابتدائية في حق 14 شخصا، في حين أن 15 شخصا هم محكومون استئنافيا.
وأشار التقرير، المعنون بـ “إعادة ترتيب الأولويات لتعزيز فعلية الحقوق”، إلى استفادة 213 محكوما بالإعدام من العفو الملكي منذ سنة 2000 إلى غاية نهاية 2022.
واعتبر تقرير المجلس أن عقوبة الإعدام “تشكل انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان، ومصادرة للحق في الحياة، باعتباره حقا أصيلا ومطلقا ومحايثا لوجود كل إنسان، وهو بذلك شرط أساسي لممارسة حقوق الإنسان الأخرى”، مذكرا بمضامين مذكرته المقدمة إلى البرلمان، بتاريخ 28 أكتوبر 2019، بخصوص مشروع القانون رقم 10.16 القاضي بتغيير وتتميم القانون الجنائي، والتي أوصى فيها بإلغاء عقوبة الإعدام.
وكان الوكيل العام للملك، رئيس النيابة العامة، مولاي الحسن الداكي، قال إن أعداد المحكومين بعقوبة الإعدام يشهد انخفاضا مستمرا، مشيرا إلى أن الأحكام صدرت جميعها من أجل جرائم على درجة كبيرة من الخطورة في حالات معدودة.
أما وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، فكان أشار إلى أن العفو الملكي يلعب دورا مهما في إعادة التوازن للسياسة العقابية، وتقليص عدد المحكوم عليهم بالإعدام، من خلال تحويل العديد من الحالات إلى السجن المؤبد أو محدد المدة، إذ بلغت الحالات المذكورة منذ سنة 2000 إلى حدود اليوم ما مجموعه 156 حالة.
لكن بالموازاة مع ذلك، لم ينفك المجلس الوطني لحقوق الإنسان يوجه دوما الانتقاد لاستمرار إصدار أحكام بعقوبة الإعدام في المغرب، ورصد كل سنة إصدار أحكام جديدة رغم قلتها.
وهو ما عبرت عنه سكرتارية التنسيقية المغاربية لمنظمات حقوق الإنسان، حين كشفت، في تقرير أخير لها، أن المغرب حل في الرتبة الثانية ضمن لائحة الدول المغاربية التي تصدر عقوبة الإعدام في ظل استمرار المحاكم المغربية بإصدار أحكام بالإعدام.
وهو منطلق المدافعين عن إلغاء عقوبة الإعدام، مستشهدين بالفصل 20 من دستور المملكة، الذي ينص على كون “الحق في الحياة هو أول الحقوق لكل إنسان”، إلى جانب الاتفاقيات الدولية التي وقعها المغرب في مجال حقوق الإنسان.
محامون وحقوقيون يفكون شيفرة العقوبة
في هذا الصدد، وجوابا عن السؤال: “هل القضاء كان صائبا بحكمه بالإعدام في قضية “ولد الفشوش”، حتى ولو كان الإعدام لا ينفذ؟ قال لحبيب حجي، الحقوقي والمحامي بهيئة المحامين بتطوان، “ما دام أن الإعدام لا يزال متضمنا في القانون ولم يلغ، وما دام أن تنفيذه ليس مرتبطا بالمحكمة ولا حتى بالنيابة العامة، بل بموافقة ملكية، وما دام أن السياسة الجنائية لم تعلن التغاضي عنه، فإن المحكمة تكون منسجمة مع القانون إذا ما ارتأت أن الحكم به يجد سنده في القانون. وأن هناك جريمة بشعة هزت الرأي العام، ومست شعوره حسب المحكمة دائما”.
وحول كونها عقوبة رادعة لمثل هذه الجرائم الخطيرة، أوضح المحامي حجي بالقول: “في نظري، فإن الحكم بالإعدام لا يحقق الردع العام، بدليل أن جرائم القتل البشعة والجرائم المتصلة بعقوبة الإعدام تواصل الاستمرار حتى ولو كانت تنفذ، فبالأحرى والكل صار يعرف أنها لن تنفذ، لأن الجريمة ترتكب دائما وصاحبها يعلم بعقوبتها، لأنه يكون إما في وضعية من يدافع عن نفسه مضطرا أو في وضعية من هيأ لها جيدا، ويعتقد أنه لن يضبط، أو في وضعية من دفعته ظروف مرضية تؤثر على مسؤوليته. المهم، مسألة الردع الخاص والعام إشكال فلسفي عميق يجب إعادة النظر فيه بالنظر إلى واقع كل مجتمع”.
وبخصوص إمكانية عودة المغرب لإقرار هذه العقوبة بالتنفيذ، أكد حجي أن “المغرب، دستوريا عضو نشط في الأمم المتحدة، وملتزم بحقوق الإنسان، وهو سائر في طريق تكييف منظومته القانونية تدريجيا مع المنظومة الحقوقية، ولذا عليه إزالتها من منظومته بالشكل الحالي، والالتزام بما تسمح به المنظومة الحقوقية”، مضيفا: “إن جرائم القتل، وما شابهها من الجرائم البشعة؛ من اغتصاب الأطفال والنساء والتعذيب… قلَّتْ بشكل كثير جدا، إلى حد العدم في بعض الدول بشمال أوروبا رغم إلغاء عقوبة الإعدام. ومقارنة بالمغرب ونمط العيش فيه، فإن مثل هذه الجرائم لا زالت قائمة، علما بأن العديد من جرائم القتل مرتبطة بالتخلف، مثل النزاعات على الإرث والأرض والانتقام، وغياب منظومة قانونية سليمة لفظ النزاعات. فكم من ملف عقاري ولد جناية القتل، وكم من ملف أسري ولد جناية القتل، وكم من تنابز طفيف ولد قتلا، وكم من سرقة / جنحة ولدت قتلا… إن مظاهر التخلف الواقعية والقانونية تعطينا جرائم قتل بشعة وتمثيلا بالجثة وقد تمتد إلى الأسرة…”.
واعتبر المحامي أن التخلي عن هذه العقوبة “مرتبط بالمستوى التكويني للمغاربة، إذ لا يزال المغرب يعاني من فقر مدقع في الوصول إلى أكبر عدد من المواطنين للتعلم والتكوين الجيد المواكب للفكر المعاصر والحداثي والدمقراطي، كما يعاني من فقر مدقع اقتصاديا، بحيث أن الفقر والتخلف يولد أسباب الجريمة، وكذا فقر المغرب من حيث النخبة السياسية غير القادرة على بلورة قواعد جديدة مواكبة لتطور العالم”.
وأبرز أنه قبل فتح نقاش مجتمعي في الموضوع، لا بد من رفع مستوى العيش، ومستوى التعليم والتثقيف، لكي تجد الدولة المجتمع مواكبا معها لما يجري في العالم، ومضى قائلا: “ولكن لا يجب الانتظار إلى حين فتح نقاش مجتمعي، يكفي أن يقرر المشرع ذلك بجرة قلم، لنكون منسجمين مع الدستور والتزامات المغرب. فإن كان إشكال مدونة الأسرة أكبر من قضية الإعدام، فها نحن نرى صاحب الجلالة الملك محمد السادس، بصفته أميرا للمؤمنين، يقود التعديل والتحديث بشكل أقوى، لأنه يساير العالم المتقدم، وما هو واجب القيام به بناء على ضروريات وليس بناء على ترف سياسي أو مزاجي أيديولوجي. هناك تحولات كبيرة تطرأ على العالم، لا يدركها العموم، بل يدركها الخاص، وعلى رأسه أكثر وأكثر رأس السلطة”.
وفي السياق ذاته، قالت المحامية من هيئة المحامين بالرباط، وعضو “الائتلاف المغربي لإلغاء عقوبة الإعدام” و”شبكة محامون ومحاميات ضد عقوبة الإعدام”، فاطمة الزهراء التوزاني، إن القضاء يحكم وفق القانون الجنائي، ومادامت العقوبة في التشريع الجنائي، فلا يمكن للقضاء الحياد عنها والحكم بغيرها.
وأضافت، في جوابها عن الأسئلة السالفة الذكر، أن القاضي الجنائي لا يمكنه التوسع والاجتهاد إلا في حدود ما هو منصوص عليه في القانون الجنائي. ورغم أن تنفيذ هذه العقوبة توقف منذ سنة 1993، فإن التشريع الجنائي لا يزال محتفظا بها.
وعن إمكانية التخلي عن هذه العقوبة، اعتبرت المتحدثة أن ذلك يتوقف على التعديل الجنائي والاقتناع بكونها عقوبة دخيلة وليست أصلية في القانون المغربي، حيث إن بعض القبائل المغربية كانت تنفي القاتل ولا تعدمه، وتحرمه من الإرث، وحتى المحكومين بالإعدام اليوم والقابعين في السجون هناك من تقادمت في حقه هذه العقوبة، كون الأحكام تتقادم.
وهنا أشارت المحامية إلى أن المغرب يشارك سنويا في “المورتوار الدولي لعقوبة الإعدام”، وأن موقف الحكومة دائما ما يكون خلال هذه المشاركة برفض التوقيع، وفي المقابل يطالب المجتمع المدني، بما في ذلك “الائتلاف المغربي لإلغاء عقوبة الإعدام” و”شبكة محامون ومحاميات ضد عقوبة الإعدام”، بتوقيع المغرب في “المورتوار” والانضمام بذلك لباقي الدول التي وقعت على حذف العقوبة من القانون الجنائي.
وشددت المحامية على أن “موقف الحكومة المغربية يجب أن يتسم بالجرأة بخصوص هذه العقوبة، كونها لا تحقق الردع أكثر من كونها عقوبة لا إنسانية، ورغم الحكم بها لا زلنا نواجه عقوبات أبشع”، مقترحة “استبدالها بعقوبة تحقق الردع وتحد من الجريمة، وأن نعالج الدوافع المرتبطة بإنتاج الجريمة وفق منهجية تعليمية تنهض بالأخلاق والتربية وتقليص الفوارق الاجتماعية”. وأوضحت أن إلغاء العقوبة يحتاج إلى مجهود كبير وقناعة مجتمعية، كونها لا تحقق الردع، بل قتل شخص آخر باسم العدالة والمجتمع، ينشئ حقدا آخر ضد المجتمع، ويلد مجرما آخر يسعى للانتقام.
من جانبه، اعتبر محمد العوني، رئيس منظمة حريات الإعلام والتعبير “حاتم”، وعضو شبكة صحافيات وصحافيين ضد عقوبة الإعدام، أن مكافحة ردود الفعل المجتمعية السلبية الداعمة لإصدار الأحكام بالإعدام، رغم التوقف عن تطبيقها، “لابد لها من عمل توعوي وتربوي كبير منظم ومؤسس، يعبر عن اختيار للدولة ولمؤسسة المجتمع من أجل ثقافة حقوق الإنسان، وأن ينكب هذا العمل على التوعية وإدماج منظومة حقوق الإنسان في حياة كل الناس”.
ولفت العوني إلى أنه “يسجل علينا في المغرب أن هناك تفاوتا بين ما ينص عليه الدستور من حقوق، وفي مقدمتها الحق في الحياة، وضرورة احترام هذا الحق كأولى حقوق الإنسان، وغيرها من الحقوق كمنظومة، وبين واقع التطبيق، وحتى التفاوت بين الدستور والقوانين التي من المفترض أن تكون نابعة من الدستور”.
وشدد المتحدث على أنه “نحتاج إلى انخراط كافة المؤسسات؛ سواء منها التعليمية والإعلامية والتربوية والثقافية ومؤسسات التنشئة والمساجد، وغيرها، في هذا العمل الكبير، بمختلف مستوياته، من أجل أن يصبح الدفاع عن الحق في الحياة مسألة عادية ومقبولة”.
تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News