الفلاحة الذكية.. الحل الناجع لمواجهة الإجهاد المائي وضمان غذاء مستدام

“هل هذه الكمية كافية يا سيد نعمان لسقي حقل التوت؟”، سؤال رددته يطو، عاملة زراعية، مرتين وهي تسقي قطعة مخصصة لزراعة التوت بضيعة كبيرة بمنطقة الغرب.
السؤال أثار فضولنا، وتبادرت إلى أذهاننا عدة أسئلة، من قبيل كيف لعاملة فراولة أن تستأذن صاحب الضيعة في سقي جانب من أرض زراعية بكمية معينة من الماء؟ هل هذه المرأة لديها وعي بإشكالية الإجهاد المائي التي يعيشها المغرب؟ أم أن الأمر عادي؟

 من خلال جواب نعمان، صاحب الضيعة، “نعم واصلي”، علمنا أن تلك المزارعة على علم بندرة الماء، والجفاف الذي يعانيه بلدنا. 
ولم تخف يطو، في حديثها إلى “الصحراء المغربية”، عشقها الكبير لزراعة التوت، ووعيها بأهمية الحفاظ على الماء، ورددت بصوت عال: “الفواكه تستهلك كميات كبيرة من الماء، ما يشكل خطرا على الفرشة المائية”.
كلام العاملة الفلاحية يوحي أنها صارت تملك خبرة في مجال تقنيات الري وترشيد المياه. 

الزرع الذكي يقتصد الماء
ونحن نتحدث مع يطو، لفت نظرنا وجود عدد كبير من عاملات الفراولة وهن يتجمهرن حول صاحب الضعية، الذي يفسر لهن عملية الزرع الذكي الذي يقتصد الماء.
عيون هؤلاء المزارعات، وهن ينصتن بإمعان لصاحب الضيعة، تشع نورا وفرحا لاكتسابهن مهارات وتقنيات جديدة، ستساعدهن في حقول التوت بإسبانيا.
وفي هذا السياق، قالت بهيجة، التي دأبت على السفر إلى إسبانيا للعمل في حقول الفراولة، “هذه المهارات ستمكنني من العمل في زرع التوت بدل الجني وحده”.
بمجرد ما توغلنا داخل هذه الضيعة الشاسعة، وصلتنا رائحة توت الأرض الفواحة، المتناثرة بعض حباته بجنبات الحقول الصغيرة، ما زادها جمالا، كأنها عروس تضع أحمر شفاه، ووجنتاها تبرقان من شدة الاحمرار.
ونحن نمعن النظر في تلك الأرض الغناء، التقطنا صورا توثق جمال المكان، لكن صورة امرأة عاملة كانت تحصي التوت المتناثر مرددة “هذا نصيب الطيور المهاجرة، لا بد أن تتذوق من غلة السي نعمان”، كانت أجمل صورة معبرة دون رتوشات.
بعيدا عن حقول التوت، جلست نساء بمستودع كبير وأخريات بمدخله، على شكل سلسلة متراصة تشتغل دون توقف، يضعن كميات الفراولة في صناديق من أحجام مختلفة معدة للتصدير إلى فرنسا.
بمستودع تصدير التوت، كانت الوجهة إلى حقول التوت الأحمر، شد سمعنا ترديد بعض العاملات المتخصصات في جني وقطف ثمار التوت وهن يرددن أغاني من تراث منطقة الغرب، يعبرن من خلالها عن فرحتهن بوفرة الغلة، ويدعين الله أن يبارك في ثمارها لضمان عمل مستدام.
لم تتوقف العاملات عن ترديد الأغاني، على اعتبار أنها تزيدهن طاقة وحافزا لإنهاء عملية الجني في ظرف وجيز، كما تنسيهن في الوقت نفسه همومهن ومشاكلهن اليومية.
وفي هذا الصدد، أكد عبد الكريم نعمان، صاحب الضيعة وخبير زراعي في الوقت ذاته، أن اعتماد الزراعة الذكية يتطلب تغيير عقلية المهندسين والمزارعين في ضيعات الفراولة.
 وأوضح أن من مزايا الزراعة الذكية أنها تقتصد الماء، وتحافظ على البيئة، وتعطي مردوية وإنتاجا وفيرا وجيدا، وذا جودة عالية، مشيرا إلى أن الأسمدة لا تعطي إنتاجا جيدا، وتتسبب في تلوث المياه الجوفية، لأن الماء هو معدن يوجد تحت الأرض، لهذا يجب عقلنة مياه السقي.

الزرع المباشر أفضل حل
وأبرز المتحدث ذاته أن الزرع المباشر دون عملية الحرث أفضل حل، بدعوى أنه خلال عملية الحرث تتبخر الأرض، وتضيع كميات من الماء، لهذا يجب أن نستعمل الزرع المباشر، باعتباره طريقة ناجعة في الزراعة الذكية.
وأكد نعمان أن الفلاحة الذكية تلعب دورا مهما في الاقتصاد والتحكم في مصاريف الإنتاج، من خلال وضع تخطيط دقيق لكافة مراحل الإنتاج الزراعي، بدءا من الحرث، مرورا بالزرع، وصولا إلى الحصاد.
ومن جهة أخرى، تحدث نعمان عن تجارب الزراعة الذكية في الخضروات، خاصة الباذنجان والطماطم والبطاطس، باستعمال أصناف تقاوم العطش والأمراض الفطرية، وحياتها العمرية قصيرة لا تتجاوز 90 يوماً، بينما التي تتعدى 150 يوما، تستهلك كميات الماء بنسبة بأكبر.
وشدد، في هذا السياق، على ضرورة تشجيع البحث العلمي في مجال إنتاج البذور، التي تكون مدتها 70 يوما، ولا تستهلك الماء والأسمدة، وتوعية الفلاحين من أجل استعمال أصناف زراعية مقاومة للعطش، بهدف تشجيعهم على زراعة ذكية مستدامة.
وذهب نعمان إلى أن الزراعة الذكية تساعد لا محالة على ضمان الأمن المائي والغذائي، وتبقى أنجع حل لأزمات الأمن الغذائي ومواجهة تحديات تغير المناح.

محطة الرصد.. جهاز لقياس الرطوبة
تتوسط الضيعة محطة لرصد مقياس الرطوبة، التي يوضح الخبير الزراعي أنها تلعب دور مقياس الرطوبة، ويبين أنه عند وجود الرطوبة بشكل جيد، تحافظ النبتة على الأسمدة، وترفع الإنتاج بشكل وفير وتحفظ البيئة. 
من أجل زراعة مستقبلية، يقول نعمان، إنه يجعل المزارع “مزارع الغد”، علما أن المغرب يتأثر بالتغيرات المناخية وشح المياه. 
بعد ضيعة الفراولة، كانت الوجهة إلى ضيعة التفاح التي تفوح منها روائح عطرة تشد الزبون، وأشجارها المتفرعة تتساقط منها حبات التفاح الأحمر تسر الناظرين، وتجعلهم يتوقون إلى تذوق طعهما الشهي. 
ونحن نتوغل داخل ضيعة التفاح، لفت انتباهنا مزارع في السبعينات من عمره، يحمل معوله ويحفر الأرض، فيقلب تربتها تارة وينظفها تارة أخرى، وهو منهمك في جمع التفاح المتساقط والمتناثر هنا وهناك.
 يشتغل المزارع بوشعيب بحيوية ونشاط، لأنه دأب على الاستيقاظ مع طلوع الفجر والذهاب إلى الحقل، واصفا عمله اليومي ببلسم وداوء يرمم عظمه، ويزيده إرادة ورغبة في مواصلة “الفلاحة”. 
يحرص هذا الفلاح على أن تكون زراعته عضوية ذكية، حيث أكد أنه لا يستعمل الأسمدة والمبيدات الكيماوية، ويقتصد الماء خلال عملية الري.

الحفاظ على الموارد للأجيال المقبلة
وتابع بوشعيب حديثه: “كنت في البداية أستعمل المواد الكيماوية. لم أتمكن من ضبط مقدار المياه الواجب استعمالها في السقي، إلى جانب استعمال مواد كيماوية مخصبة، لكن بعد أن تلقيت دورات في التوعية والتحسيس بأهمية الزراعة المستدامة، أوليت اهتمامي إلى الزراعة الإيكولوجية الذكية من أجل ضمان فلاحة مستدامة، والحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال المقبلة، وضمان أمن غذائي لبلدنا”.
وقال المزارع إنه من أجل نجاح فلاحته وجعلها مستدامة، شرع في استعمال تربة خصبة تستوجب معايير الفلاحة الطبيعية، مثل استعمال مادة “لاتور”، وهي تربة خصبة تتضمن عدة مواد عضوية بسيطة مثل سماد روث الحيوانات وسماد منتجات الصابون البلدي وزيت المائدة، موضحا أنها من بين المواد التي تحافظ على الزراعة الطبيعية، لأنها تحافظ على سلامة التربة، وتقضي على الحشرات والجرذان، وتضمن “غلة جيدة”، أي منتوج وفير. 
أما إدريس، مزارع لم يتجاوز الثلاثين من عمره، فقال: “الزراعة الذكية هي الوسيلة الناجحة للحفاظ على الموارد الطبيعية من ماء وضمان الغذاء للأجيال الحالية والمستقبلية”.
واسترسل المتحدث: “الفلاحة الذكية هي المستقبل لتحقيقها نجاحا باهرا، وذلك من خلال الانفتاح على أنواع الزراعات وكيفية الحفاظ على سلسلة الإنتاج الفلاحي وجودة التربة وترشيد المياه.”
وفي هذا السياق، أفادت أميمة أوخيي، باحثة في مجال التنمية المستدامة والبيئة، أن الفلاحة الذكية تشجع على ترشيد وعقلنة الموارد المائية، والحفاظ على الموارد الطبيعية، واستخدام الأسمدة الطبيعية. 
وشددت الباحثة ذاتها على ضرورة توعية وتحسيس المزارعين بأهمية الزراعة الذكية، لاعتبارها مصدرا صديقا للبيئة.
وتحدثت أوخيي عن أهمية “الفلاحة 4.0″، التي تعتمد على تقنيات وحلول ذكية تستهدف تطوير الأمن الغذائي، ومواجهة التقلبات المناخية، وتعمل هذه التقنيات بواسطة أجهزة بشبكة الإنترنت.
ومن جانبها، أكدت نرمين زغودة، خبيرة تقنية متخصصة في إنتاج الشتلات المعتمدة، أن الفلاحة الذكية اليوم أصبحت تكتسح المجال الفلاحي، وذلك بالانتقال من الزراعة القديمة التقليدية إلى العصرية الذكية، التي ستحقق نجاحا كبيرا لفائدة بلدنا وعالميا.
وفسرت زغودة أن خير دليل على أهمية الزراعة الذكية هو أنه في السنوات السابقة كان المزارعون يستعملون خلال وقت الحصاد وسائل بدائية، تستزف الطاقة، وتهدر الوقت والجهد، لكن اليوم نستعمل آلات عصرية مثل الجرار الذكي، ويحرث عامل زراعي واحد هكتارات، وبالتالي نختصر الطاقة والجهد والمدة الزمنية تتقلص، والكلفة المالية تنخفض.
 وقالت الخبيرة التقنية: “أصبحنا اليوم نعتمد على زراعة ذكية لمواجهة تحديات تغير المناخ، كما نستعمل تقنية التنقيط حسب احتياجات النباتات من أجل الحفاظ على الماء”.
وفي هذا الصدد، قالت أميمة الخليل، خبيرة في المناخ والتنمية المستدامة، إنه لتجاوز إشكالية الإجهاد المائي سعى المغرب إلى اعتماد أنظمة زراعية ذكية صديقة للبيئة، تزيد من الإنتاجية وتحافظ في الآن ذاته على المياه الجوفية، في ظل التقلبات المناخية التي يعرفها المغرب، وشح الأمطار، وتوالي مواسم الجفاف. 
وأوضحت الخليل أن الزراعة الذكية مناخيا لها ثلاثة أهداف رئيسة، وهي زيادة مستدامة في الإنتاجية الزراعية والدخل، والتكيف، وبناء القدرة على التكيف مع تغير المناخ، إلى جانب خفض أو إزالة انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، حيثما كان ذلك ممكنا.
لهذا تشدد الخليل على ضرورة اعتماد الفلاحة الذكية، على اعتبار أنها صارت الحل الناجع لفلاحة مستدامة.
الذكاء الاصطناعي وتحقيق الأمن الغذائي
وتابعت المتحدثة أن المغرب انخرط في هذا التوجه منذ سنوات، من أجل التصدي لآثار الاحتباس الحراري الذي يتربص بالعالم، وهو ما أكده السفير الممثل الدائم للمغرب لدى الأمم المتحدة، عمر هلال، خلال لقاء افتراضي عالي المستوى حول “دور الذكاء الاصطناعي في تحقيق الأمن الغذائي في مرحلة ما بعد كوفيد-19″، حيث قال إن “هذه العلوم والتكنولوجيات صارت تساهم في زيادة إنتاج الفلاحين الصغار والمتوسطين، فضلا عن المساعدة في إنتاج المزيد من الغذاء باستهلاك كميات أقل من المياه والطاقة”.

تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News
زر الذهاب إلى الأعلى