تواصل تحديات مناخية متعددة التأثير بشكل مباشر وغير مباشر على القطاع الفلاحي، الذي يُعتبر أحد أهم ركائز الاقتصاد الوطني. الجفاف المتواصل، الناتج عن قلة التساقطات المطرية وانخفاض منسوب المياه في السدود والآبار، دفع العديد من الفلاحين إلى اتخاذ قرارات صعبة؛ أبرزها اقتلاع الأشجار المثمرة، التي باتت غير قادرة على تحمل ظروف نقص المياه.
هذه الظاهرة، وفق الفاعلين في القطاع، ليست مجرد رد فعل آني؛ بل تُنذر بتغييرات عميقة في النمط الفلاحي قد تؤدي إلى فقدان بعض المنتجات الفلاحية من الأسواق المحلية إذا استمرت أزمة نقص مياه الري.
وتتعدد المنتجات المهددة بالفقدان، خاصة تلك التي تتطلب كميات وفيرة من المياه أو ظروف مناخية محددة؛ مثل أشجار التفاح والحمضيات وبعض أنواع الخضروات والفواكه. وفي ظل استمرار الجفاف، يواجه المغرب خطر تراجع إنتاج هذه المحاصيل؛ مما قد يؤثر على الأمن الغذائي المحلي، ويزيد من الاعتماد على الواردات.
في هذا السياق، أكد حميد الصالحي، مستشار فلاحي رئيس جمعية التنوير، إلى أن التغيرات المناخية التي شهدها المغرب خلال العقد الأخير، مثل قلة الأمطار وهبوب الرياح الشرقية الحارة وانخفاض حقينة السدود وجفاف الآبار، أثرت سلبا على الأشجار المثمرة، خاصة تلك التي تتطلب كميات كبيرة من المياه.
وأوضح الصالحي، ضمن تصريح لجريدة النهار، أن أشجار التفاح، على سبيل المثال، التي تحتاج إلى أكثر من 1200 لتر من الماء سنويا للشجرة الواحدة، أصبحت غير قادرة على التكيف مع الوضعية الحالية.
وأبرز المستشار الفلاحي إلى أن هذا الواقع دفع الفلاحين في مناطق مثل فاس وميدلت إلى اقتلاع هذه الأشجار، حيث كانت هاتان المنطقتان تُعرفان بإنتاج التفاح بكميات وفيرة.
ولفت المتحدث ذاته إلى أن منطقة فاس، التي كانت تشتهر بأشجار البرتقال والتفاح، شهدت تحولا نحو زراعة الخضروات التي لا تتطلب مدة زمنية طويلة؛ مثل تلك التي تُروى بمياه الآبار المحفورة حديثا.
وسجل الصالحي أن هذا التحول جاء كرد فعل على نقص المياه وعدم قدرة الأشجار المثمرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي من الماء، مضيفا أن الفلاحين اضطروا إلى تغيير نمط الزراعة لتجنب الخسائر؛ مما يعكس التأثير العميق للجفاف على التنوع الفلاحي في المنطقة.
وفي هذا الصدد، أشار المستشار الفلاحي إلى تجربة إقليم ميدلت، التي كانت تُعد من أفضل المناطق المنتجة للتفاح في المغرب؛ غير أن فلاحيها اضطروا، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، إلى اقتلاع مئات الهكتارات من أشجار التفاح بسبب قلة الثلوج والأمطار وارتفاع درجات الحرارة، منبّها إلى أن هذه العوامل أجبرت الفلاحين على التحول نحو زراعة الخضروات مثل البطاطس والبصل والجزر التي أصبحت تُنتج بكميات كبيرة.
من جهته، أوضح كمال أبركاني، خبير في العلوم والهندسة الزراعية من الكلية متعددة التخصصات بالناظور، أن الجفاف أثر بشكل ملحوظ على الأشجار التي تحتاج إلى مدة زمنية طويلة للإنتاج، مثل الزيتون والحمضيات والعنب والفواكه الوردية (البرقوق والمشمش والخوخ).
وأشار أبركاني، في حديث لجريدة النهار، إلى أن هذه المشاريع الزراعية تتطلب استثمارات كبيرة وسنوات من الانتظار قبل تحقيق العائد؛ مما يجعلها غير مجدية في ظل الجفاف المستمر الذي يُسبب مشاكل فيزيولوجية للأشجار ويُقلل من إنتاجيتها.
وأضاف الخبير في العلوم والهندسة الزراعية أن الأشجار المثمرة يمكنها تحمل الجفاف لعام أو اثنين؛ لكن استمرار الأزمة لأربع أو خمس سنوات يؤدي إلى تراجع كبير في الإنتاج، سواء في المناطق البورية أو المسقية.
وأكد أن أشجار الزيتون، رغم مقاومتها النسبية للجفاف، تأثرت بشدة في المناطق البورية بعد ست أو سبع سنوات من نقص التساقطات؛ مما أدى إلى انخفاض العرض وزيادة أسعار المنتجات مثل زيت الزيتون.
وسجل المصرح لجريدة النهار أن ارتفاع تكاليف الإنتاج، بسبب زيادة أسعار المدخلات الزراعية والطاقة، ساهم في تفاقم الأزمة.
وفي سياق متصل، تناول أبركاني واقع إنتاج الحمضيات في منطقة بركان، التي كانت تُساهم بنحو 22 في المائة من الإنتاج الوطني؛ لكنه لاحظ تراجعا كبيرا في المساحات المزروعة بسبب الجفاف وارتفاع تكاليف الصيانة، حيث يحتاج الفلاح إلى استثمار ما بين 40 إلى 50 ألف درهم للهكتار للحصول على إنتاج قد لا يغطي التكاليف في ظل تقلبات السوق. الأمر نفسه، حسب الخبير الزراعي ذاته، بالنسبة لزراعة العنب التي تواجه تحديات مماثلة، حيث تتطلب تكاليف إنتاج تتراوح بين 70 إلى 100 ألف درهم للهكتار؛ لكن نقص المياه قد يؤدي إلى خسارة الاستثمار بالكامل، مما يدفع الفلاحين إلى التخلي عن هذه الزراعات.
واقترح الأستاذ الجامعي المختص في الهندسة والعلوم الزراعية كحل للحد من التداعيات ضرورة دعم الأشجار المثمرة في المناطق المسقية من خلال توفير إعانات للمياه وتحسين أنظمة الري. كما دعا إلى إعادة التشجير بحذر، مع مراعاة الظروف المناخية الحالية والتركيز على المناطق التي تتوفر فيها المياه لتجنب تكرار الأخطاء السابقة.