انتشرت “الموضات الاستثمارية” في المغرب، بعدما اندفع عدد كبير من المستثمرين نحو قطاعات معينة دون دراسة كافية، ما أدى إلى تكبدهم خسائر فادحة؛ ففي قطاع العقار الفاخر قادت التوقعات المبالغ فيها إلى تراجع الطلب بعد 2015، تاركة العديد من هؤلاء المستثمرين مع عقارات غير قابلة للبيع إلا بخسارة. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الفلاحين، حيث جذبت طفرة “الأفوكادو” واللوز باحثين عن الربح السريع، لكن ندرة المياه وارتفاع التكاليف أضرا بالمردودية، وأفقدا هكتارات من المزروعات ربحيتها.
وخلال العقد الأخير أصبح الاستثمار في “الفرانشايز” (الامتياز التجاري) موضة في المغرب، حيث اندفع العديد من الأشخاص لفتح فروع لمطاعم عالمية أو مقاه مشهورة، على أمل تحقيق أرباح سريعة، متأثرين بالفكرة التي كانت تروج لها شركات “الفرانشايز” بخصوص “العلامة التجارية العالمية تبيع نفسها بنفسها”، ما دفع العديد من المستثمرين للاقتراض وفتح مشاريع دون دراسة السوق، إلا أنهم في بعض المدن، خصوصا المتوسطة، اصطدموا بطلب غير كاف على علاماتهم التجارية، ما أدى إلى إغلاق بعض الفروع بعد شهور فقط من افتتاحها، إضافة إلى مشاكل أخرى مرتبطة بالتكاليف العالية للعلامة التجارية والإيجار والمواد المستوردة، ما صعب تحقيق أرباح مستدامة، في ظل منافسة شرسة مع مشاريع مغربية بأسعار أقل كانت أقوى مما توقعوه.
ولتجنب الوقوع في فخ “الموضة” الاستثمارية، التي غالبا ما تكون مدفوعة بالضجيج الإعلامي والموجات المؤقتة، نبه خبراء اقتصاديون ومتخصصون في تسيير المقاولات، إلى وجوب اتباع نهج عقلاني ومدروس، يمر عبر إجراء دراسة معمقة للسوق لفهم مستوى الطلب ومدى توفر عوامل الإنتاج، ما يضمن اتخاذ قرارات استثمارية قائمة على معطيات واقعية وليس على توقعات عاطفية؛ إضافة إلى ضرورة الحذر من “الدعاية” التجارية والإعلانات المضللة التي تهدف إلى خلق وهم الربح السريع، مع التركيز على الاستثمار المستدام الذي يحقق قيمة حقيقية على المدى الطويل، سواء من حيث الابتكار أو التأثير الاجتماعي والبيئي، باعتباره السبيل الأمثل لبناء ثروة مستقرة وتجنب الخسائر الناتجة عن التقلبات المؤقتة.
“السوشل ميديا” ضللت مستثمرين
ساهمت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير في تعزيز “موضة” الاستثمار في مجالات معينة، إذ أصبحت منصة رئيسية لنشر المعلومات والترويج للفرص الاستثمارية. من خلال المحتوى المتنوع، سواء كان مقالات، فيديوهات، أو منشورات، يتم تسليط الضوء على قطاعات معينة باعتبارها مربحة وواعدة، ما دفع العديد من المستثمرين، خاصة الجدد، إلى التوجه نحو هذه المجالات دون دراسة معمقة. وعلى سبيل المثال شهد المغرب في السنوات الأخيرة ترويجا واسعا عبر وسائل التواصل الاجتماعي للاستثمار في العقارات الفاخرة، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل غير واقعي، قبل أن يتراجع الطلب، تاركا العديد من المستثمرين عالقين بعقارات يصعب بيعها بدون خسارة.
وبهذا الخصوص أوضح يونس أيت احمادوش، أستاذ جامعي في الاقتصاد الكلي والمالية، تعليقا على تحليل أنجزه تحت عنوان “الجري وراء الموضة الاستثمارية في المغرب: بعض الدروس من الواقع”، أن “وسائل التواصل الاجتماعي تعتمد على التأثير النفسي للمحتوى المنتشر، حيث يمكن أن يؤدي الانتشار الواسع لقصص النجاح في مجال معين إلى خلق انطباع بأن هذا المجال هو الخيار الأمثل للاستثمار؛ وهو تأثير قد يكون مضللا، خاصة إذا كانت هذه القصص لا تعكس الواقع الكامل للسوق”، وزاد: “على سبيل المثال تم الترويج لاستثمار بعض المقاولين في زراعة الأفوكادو على أنه (الذهب الأخضر)، لكن قلة منهم فقط أخذت في الاعتبار ندرة المياه وارتفاع تكاليف الإنتاج، ما أدى إلى فشل العديد من المشاريع بسبب الجفاف أو ضعف المردودية المالية مقارنة بالتوقعات”.
وشدد أيت احمادوش، في تصريح لجريدة النهار، على الدور الكبير الذي يلعبه المؤثرون الرقميون في توجيه اهتمامات المستثمرين نحو مجالات معينة، موضحا أنه “عندما يقوم شخص ذو تأثير واسع بالترويج لفرصة استثمارية فإن متابعيه قد يرون فيها توصية موثوقة، ما يدفعهم إلى الاستثمار دون بحث كاف”، مشيرا إلى أنه “في المغرب انتشرت موجة استثمارات في ‘الفرانشايز’، حيث ظن كثيرون أن العلامات التجارية العالمية تبيع نفسها بنفسها؛ ومع ذلك واجهت بعض المشاريع مشاكل، مثل ضعف الطلب المحلي وارتفاع التكاليف، ما أدى إلى إغلاقها في غضون أشهر قليلة بعد افتتاحها”.
واعتبر المتحدث ذاته أن “المعلومات غير الدقيقة أو المبالغ فيها المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تؤدي إلى تضليل المستثمرين في بعض الأحيان، حيث يتم الترويج لفرص استثمارية بوعود غير واقعية، ما يدفع الأفراد إلى الاستثمار دون وعي بالمخاطر المحتملة”، مستدلا بأن “الفترة الماضية شهدت حالات عديدة لمشاريع ناشئة استثمرت في مجالات ‘رائجة’ دون تخطيط مالي سليم، قبل أن تتوقف سريعا بسبب غياب الطلب الفعلي أو سوء الإدارة”.
تعدد عوامل فشل المشاريع
تعددت العوامل المساهمة في فشل المشاريع والاستثمارات حديثة النشأة، أبرزها التقليد الأعمى، إذ يقوم المستثمرون باستنساخ مشاريع ناجحة دون دراسة جدوى حقيقية أو فهم للسوق المستهدف، ما يؤدي غالبا إلى دخول السوق بمنتجات أو خدمات لا تلبي احتياجات الزبائن، ما ينتهي بالمشروع إلى الفشل. وعلى سبيل المثال شهد المغرب طفرة في افتتاح المقاهي والمطاعم المشهورة بعلامات تجارية عالمية، لكن العديد منها اضطرت إلى الإغلاق سريعًا بسبب المنافسة القوية من العلامات المحلية الأقل تكلفة، التي تتكيف بشكل أفضل مع القدرة الشرائية للمستهلك المغربي.
وعاد أستاذ الاقتصاد الكلي والمالية للتأكيد على أن “نقص المعلومات الحيوية يعد عاملا آخر مهما في فشل المشاريع”، موضحا أن “عدم توفر معلومات كافية حول السوق، والمنافسين، واحتياجات الزبائن يجعل من الصعب على المستثمرين اتخاذ قرارات مستنيرة”، ومستدلا بأن “بعض رجال الأعمال الأجانب استثمروا بالمغرب في مصانع صغيرة لإنتاج المنتجات التجميلية المحلية، معتمدين على توقعات بارتفاع الطلب، لكنهم اصطدموا بواقع أن السوق يهيمن عليه مستوردون أقوياء وعلامات تجارية معروفة، ما جعل دخولهم السوق شبه مستحيل وأدى إلى إفلاسهم بسرعة”.
ومن جهتها اعتبرت ابتسام مذكوري، محاسبة معتمدة ومستشارة في تسيير المقاولات، في تصريح لجريدة النهار، أن “فشل العديد من المشاريع في المغرب، خاصة في القطاعات الناشئة والصناعية، يرتبط بشكل وثيق بعوامل جوهرية تتعلق بالتدبير المالي للمقاولة والتحديات القانونية والإدارية”، موضحة أنه “عند الحديث عن تدبير الموارد المالية يمكن تسجيل ضعف كبيرة لدى المستثمرين على مستوى ثقافة المقاولة، والفصل بين الذمة المالية الشخصية وحسابات المقاولات، حيث يقترف المستثمرون، خصوصا رواد الأعمال الجدد، أخطاء قاتلة”، ومشيرة إلى أن “هذا الخلل يؤدي إلى ارتباك في تدبير السيولة، ما يجعل المشروع غير قادر على تغطية التكاليف التشغيلية، خصوصا في المراحل الحرجة التي تتطلب استقرارا ماليا لضمان استمرارية النشاط”.
وأضافت مذكوري في السياق ذاته: “بالإضافة أن سوء تخصيص الميزانية يعتبر من العوامل الحاسمة التي قد تسرع من انهيار المشاريع”، مستدلة بما شهدته المملكة خلال السنوات الأخيرة من مشاريع ناشئة في قطاع التكنولوجيا، حصلت على تمويلات أولية واعدة، لكنها اختارت التركيز على حملات التسويق المكلفة والتوسع السريع دون تحقيق قاعدة مداخيل مستدامة، ومؤكدة أن “هذا النهج أدى إلى استنزاف الموارد المالية في وقت قياسي، ما أجبر هذه المشاريع على الإغلاق قبل أن تتمكن من تحقيق أي عائد ملموس”.
وأوضحت الخبيرة ذاتها أنه “في ما يتعلق بالتحديات القانونية والإدارية فهي تمثل عقبة رئيسية أمام المستثمرين، خاصة في القطاع الصناعي؛ فالبطء في الإجراءات الإدارية، وتعقيد المساطر المتعلقة بالحصول على التراخيص والتصاريح اللازمة، يؤدي في أغلب الأحيان إلى تأخير إطلاق المشاريع لفترات طويلة، ما يترتب عليه ارتفاع في التكاليف التشغيلية، وإفقاد المشروع القدرة على تحمل الأعباء المالية على المدى الطويل، ليضطر عدد من المستثمرين إلى التخلي عن مشاريعهم بالكامل بعد سنوات من الانتظار ومواجهة عقبات بيروقراطية لا نهاية لها”.