حيرت حصيلة الامتثال الضريبي للمقاولين الذاتيين مصالح المديرية العامة للضرائب، التي صرح مديرها العام يونس إدريسي قيطوني، في جلسة نقاش نظمت من قبل موقع “ميديا 24” مؤخرا، بأن الغالبية العظمى من المستفيدين من نظام “المقاول الذاتي” Autoentrepreneur لا يصرحون بدخولهم، فمن أصل 430 ألف شخص مسجل فقط 6 في المائة (27 ألف شخص) يلتزمون بأداء واجباتهم الضريبة، ما يعكس فشلا هيكليا لهذا النظام، إذ أظهرت التجربة، حسب تعبيره، أن “خفض الضرائب لا يؤدي بالضرورة إلى زيادة الامتثال”، ليطرح هذا النظام تساؤلات حول فعاليته والحاجة إلى إعادة النظر في آليات مكافحة التهرب الضريبي بشكل عام.
وتم تصميم نظام “المقاول الذاتي” لتسهيل دمج فئة العمال المستقلين في النظام المهيكل، لكن التجربة العملية أظهرت استخدام هذا النظام بشكل أكبر كوسيلة لتشريع الأنشطة، أكثر من التهرب من النظام الضريبي، الأمر الذي أكده مدير عام الضرائب، من خلال قوله، إن “نظام المقاول الذاتي هو شكل من أشكال تقنين النشاط غير المهيكل”، فيما يثير معدل الامتثال المنخفض بشكل قياسي تساؤلات حول فعاليته، وخصوصا حول وجوب تعزيز الرقابة أم مراجعة الحوافز، أم إعادة التفكير في النظام بالكامل، إذ يظل مشكل التهرب الضريبي قائما في المغرب، فحتى الضريبة الرمزية لا تكفي لمكافحة هذه الظاهرة.
وبالعودة إلى لغة الأرقام فعدد المقاولين الذاتيين في المغرب بلغ 615.660 شخصا منذ إطلاق هذا النظام الجبائي قبل أقل من عشر سنوات، بينهم 389.565 شخصا مازالوا نشيطين، فيما تمركز قطاع الخدمات الأكثر استقطابا لهذه الفئة من الملزمين بنسبة 44 في المائة، متبوعا بقطاع التجارة بنسبة 40 في المائة، ثم الصناعة بنسبة 9 في المائة، والحرف اليدوية بنسبة 7 في المائة؛ علما أن عدد التسجيلات ارتفع بشكل ملحوظ خلال جائحة كورونا، حيث وصل إلى 174.665 شخصا، بينما يعمل 554.155 مقاولا ذاتيا (89.32 في المائة) بشكل دائم، ويشتغل 66.250 شخصا (10.68 في المائة) بشكل موسمي.
مزايا ضريبية غير مغرية
رغم المزايا الضريبية التي يحصل عليها المقاولون الذاتيون في المغرب إلا أن القليل منهم يصرحون بمداخيلهم الحقيقية، إذ أظهرت المغطيات الواردة عن إدارة الضرائب أن 27 ألفا من أصل 430 ألفا فقط يلتزمون بتقديم التصريحات الضريبية، ما يعكس معدل عدم امتثال مرتفعا، مؤكدة أن الهدف من النظام كان تشجيع الانتقال إلى القطاع المهيكل، على أساس أن خفض الضرائب سيزيد من الامتثال، عير أن معدلات الالتزام الجبائي في صفوف هذه الفئة من الملزمين أصبحت بين الأدنى في النظام الضريبي الوطني.
وأوضح منير المستاري، خبير في القانون الضريبي والمالية العمومية، في تصريح لجريدة النهار، أن “النظام الضريبي الذي تم إقراره للمقاولين الذاتيين في المغرب كان يهدف، في البداية، إلى تحفيز هؤلاء على الانتقال من القطاع غير المهيكل إلى القطاع المهيكل عبر منحهم مزايا ضريبية مغرية، تتضمن تخفيضات في قيمة الضرائب والتخفيف من التعقيدات الإدارية؛ ومع ذلك تشير البيانات الحديثة إلى أن هذا النظام لم يحقق الهدف المنشود، بل على العكس، كان له تأثير محدود في تعزيز الامتثال الضريبي بين المقاولين الذاتيين”، مشددا على أن “المقاولين الذاتيين لا يرون في المزايا الضريبية المُقدمة حوافز كافية للاستجابة للالتزامات الضريبية بشكل منتظم”، ومعتبرا أن “هذا التوجه يمكن أن يعود إلى عدة عوامل، أولها أنه مازال العديد من المقاولين يواجهون صعوبة في الانتقال إلى القطاع المهيكل بسبب ضعف الوعي بأهمية هذا الانتقال وفوائد القطاع المهيكل، وثانيها أن المزايا الضريبية الحالية قد تكون غير كافية لتغيير سلوك هؤلاء المقاولين، ما يساهم في استمرارهم في الأنشطة غير المهيكلة وتجنبهم الامتثال الضريبي”.
وأضاف المستاري أن “تحليلات حديثة تظهر أن التخفيضات الضريبية قد لا تكون الحل الوحيد للمشاكل التي يعاني منها هذا القطاع، فقد تكون الحوافز المالية غير كافية عندما تكون هناك مشاكل هيكلية أخرى تتعلق بالإدارة، مثل تعقيد الإجراءات الضريبية، وغياب الشفافية في عمليات التحصيل الضريبي، وعدم وجود آليات فعالة للرقابة”، وزاد: “هذه العوامل قد تساهم في تقويض النظام وتشجيع المقاولين على التهرب من دفع الضرائب، ما يؤدي إلى زيادة نسبة الاقتصاد غير المهيكل”، مشددا على أن “الإصلاحات الضريبية التي تم تطبيقها تحتاج إلى مراجعة جذرية، على اعتبار أنه من الضروري أن تكون هناك حلول تكاملية تشمل تحسين بيئة الأعمال بشكل عام، وتبسيط الإجراءات الإدارية، وتعزيز الشفافية والمساءلة في النظام الضريبي، إلى جانب التوعية المستمرة بالمزايا التي يمكن أن يجنيها المقاولون من الانتقال إلى القطاع المهيكل”، ومعتبرا أن “تعزيز الرقابة الضريبية والرفع من مستوى العقوبات قد يساهمان بشكل كبير في زيادة الامتثال”.
إقبال منخفض على النظام
أظهرت حصيلة الانخراط في نظام “المقاول الذاتي” تراجعا ملحوظا، خصوصا خلال السنوات الأخيرة، رغم انتعاشه خلال فترة تفشي جائحة كورونا، فيما يرى خبراء أن تشجيع الانخراط يتطلب مجموعة من الإجراءات، تشمل الحوافز المالية وتبسيط الإجراءات، وكذا التوعية والتثقيف، وتوفير الدعم المالي والإداري، بالإضافة إلى إنشاء برامج تحفيزية؛ علما أنه من خلال تنفيذ هذه السياسات يمكن للحكومة والمؤسسات المعنية تعزيز عدد “المقاولين الذاتيين”، بما يساهم في تحسين قدرات الاقتصاد المهيكل وزيادة فرص الشغل، فيما يشكل تخفيض الضرائب أو تقديم إعفاءات ضريبية على الدخل المكتسب عوامل جذب رئيسية، وتشجع المزيد من النشيطين على التسجيل في النظام المذكور.
وأكد عبد الرزاق الكوني، إطار محاسب ومستشار ضريبي بالدار البيضاء، أن التراجع الملحوظ في إقبال الأفراد على نظام “المقاول الذاتي” في السنوات الأخيرة، رغم انتعاشه خلال جائحة كورونا، يعود إلى عدة عوامل رئيسية تتطلب تدخلات عاجلة، موضحا أن “أولها مرتبط بتعقد الإجراءات الإدارية، ما يشكل عائقا رئيسيا أمام العديد من الأفراد الراغبين في الانخراط في النظام، إذ إن الإجراءات البيروقراطية قد تكون مرهقة وتحتاج إلى تبسيط رغم الجهود المبذولة على مستوى التسجيل الرقمي؛ فيما العامل الثاني هو غياب الحوافز الجبائية والمالية المناسبة، باعتبارها عاملا مؤثرا في عزوف العديد من المقاولين المحتملين، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها العديد من الملزمين”.
وتابع الكوني، في تصريح لجريدة النهار، بأنه “يجب على الحكومة تبني إجراءات تحفيزية فورية، تشمل تقليص العبء الضريبي وتقديم إعفاءات ضريبية، خصوصا لفائدة من يباشرون أعمالهم لأول مرة”، وزاد: “كما أن تبسيط إجراءات التسجيل وتسهيل الوصول إلى الدعم الإداري والمالي يعتبران من الأولويات التي ستتحفز الكثيرين على الانخراط في النظام”، مشددا على “ضرورة تعزيز برامج التوعية والتثقيف حول مزايا نظام ‘المقاول الذاتي’، وتوضيح العائدات التي يمكن أن يحققها الأفراد من خلاله، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية الحالية”، ومشيرا إلى أنه “من خلال تنفيذ هذه السياسات يمكن للدولة تعزيز الاقتصاد المهيكل وزيادة فرص الشغل، وهو ما سينعكس إيجابا على النمو الاقتصادي العام وتحقيق استدامة مالية للمواطنين”.