اختارت مجموعة “روافد موسيقية” بمدينة طنجة أن تخصص النسخة الـ17 من ملتقى العبادي لهواة طرب الآلة لكريس ثقافة الاعتراف والاحتفاء بالذكرى الستينية لرحيل قيدوم طرب الآلة الملعّم العربي بن محمد السيار الطنجي؛ وذلك بعزف “نوبة العشاق” تحت إشراف الدكتور عمر المتيوي يومي 27 و28 دجنبر الجاري في مدينة البوغاز.
وحسب دراسة أولية أعدها المتيوي حول “نوبة العشاق” فإنه وفق المفهوم الموسيقي العام “يدل اسم العشاق على مقام من المقامات الموسيقية العربية والتركية، كما يشهد رواجًا في بعض البلدان الإسلامية الأخرى؛ ويُعرف بأنه المقام الخامس ويُطلق عليه أحيانًا اسم بَنْجِكَاه، خاصة في بلاد الحجاز، ويُشتق من مقام الدوكاه مع تعديل في بعض الدرجات الموسيقية، ما يمنحه طابعا مميزاً”.
أما في المغرب فيشير مصطلح العشاق، كما ورد في الدراسة ذاتها، إلى “نوبة من نوبات موسيقى الآلة التي تضمنها كناش الحايك”، وزادت: “يدلّ أيضاً على الطبع السائد في هذه النوبة، ومن خصوصياته أنه غالبا ما يقفل على درجة الرمل ‘صول’، وأحيانًا يقفل على درجة الماية ‘ري’”.
وحسب التصانيف القديمة يورد الباحث عينه أن “نوبة العشاق التي وردت في المرتبة الحادية عشرة بعد نوبة عراق العجم تعد من أروع النوبات الإحدى عشرة، نظرًا لخفة طبعها الحاد الذي لا يخلو من نكهة حماسية مؤثرة”.
وأضاف المستند عينه: “أشعارها المتميزة تنشد جمال الطبيعة وروعة مظاهرها وتجلياتها من الفجر إلى وقت الأصيل، ويبلغ تأثيرها ذروته ويصبح أعذب عندما يُعزف في هذا الوقت من اليوم (…)”، مشيراً إلى أن نوبة العشاق تندرج تحتها ثلاثة طبوع هي: “العشاق، والذيل، ورمل الذيل”.
لمة تراثية سنوية
شكيب العبادي، رئيس “ملتقى العبادي”، قال إن الالتئام هذه المرة في هذه “اللمة التراثية الأصيلة” يحمل “نكهة خاصة”، إذ يتمّ “إحياء الذكرى الستينية لرحيل علم كبير من أعلام موسيقى الآلة المغربية، الفنان العبقري المبدع العربي بن محمد السيار (1882 -1964)، الذي أسدى خدمات جليلة لتراثنا المغربي الأصيل، خصوصًا تلحينه ميزان درج العشاق الضائع، إلى جانب أعمال نفيسة أخرى”.
وتابع العبادي في كلمة مدرجة ضمن مؤلّف تأطيري للدورة: “أخذنا العهد منذ الدورات الأولى للملتقى على العمل لتطويره شكلا ومضمونا، واستطعنا من خلال الدورات المتعاقبة الانتقال بفكرة الملتقى من تقديم ميازين مختلفة إلى مشروع ضخم يهدف إلى توثيق نوبات كاملة بمقاربة شمولية تعتمد على جميع المستعملات، مع إدراج نوادر الصنائع والغريب منها”، وزاد: “ارتكزنا في مقاربتنا هذه على التسجيل الحي المباشر للنوبات وسط حضور مميز في فضاء مغربي تقليدي أصيل”.
ووضّح الموسيقي المغربي أن خوض غمار هذه التجربة كان “ناجحا”، وواصل: “تمكنا منذ سنة 2015 وحتى الآن من إنجاز ست نوبات من أصل إحدى عشرة هي: الاصبهان والماية ورمل الماية، والاستهلال، والرصد، والحجاز الكبير”، مردفا: “إيمانا منا بأهمية التواصل بين ضيوف الملتقى قمنا العام الماضي بفتح ورشة في مجموعة ‘واتساب’ للنقاش وتبادل الآراء حول التراث، بالتوازي مع الملتقى السنوي”.
وزاد المتحدث ذاته: “أسهمت هذه المبادرة في تعزيز ثقافة الحوار الهادف إلى طرح قضايا طرب الآلة المغربية في جو يسوده الوئام، والاحترام المتبادل، والتعددية”، مبينا أن “هذه النقاشات استمرت لمدة ثمانية أسابيع وكانت نتائجها مشرفة شكلاً ومضمونا (…)”، وأشار إلى أن المعنيين “بصدد إصدار كتيب يجمع أهم خلاصات هذه النقاشات ليكون مرجعا للباحثين والمهتمين”.
كما عبّر العبادي عن تقديره العميق لمجهودات مجموعة “روافد موسيقية” العتيدة، بقيادة عمر المتيوي، الذي “كرس عامًا كاملا لجمع ما تبقى من مستعملات نوبة العشاق، مع تلقينها بإتقان لمجموعته الرائدة”، وأردف: “هذه المجموعة المؤلفة من موسيقيين شباب يؤمنون بأصالة هذا الفن رغم صغر سنهم قد تركت بصمتها المميزة في جميع الدورات التي شارکت فيها، بفضل جديتها واحترافيتها وتضحياتها، وإيمانها العميق برسالتها النبيلة”.
إشعاع ثقافي متواصل
عمر المتيوي، رئيس مجموعة “روافد موسيقية الطنجية”، قال: “مضت سنة كاملة على ملتقى العبادي، ذلك الإشعاع الثقافي الذي يضيء سماء الفن والموسيقى في المغرب، يبث نورًا يرسم دروب العاشقين الولوعين كأنه فنار شامخ يرشد السفن العابرة للقارات في ملتقى البحرين، حيث تتعانق الموجات وتلتقي الحضارات”، مضيفا: “هذا الملتقى لم يعد مجرد حدث عابر، بل أضحى تقليدًا فنيًا راسخًا، تُحاكى به القمم، وتُضرب به الأمثال”.
وبالنسبة للمتيوي فإن الملتقى “فضاء بديع، يمتد كدعوة مفتوحة للرجال الذين يحملهم الشغف، فلا تهدأ أرواحهم حتى تنهل من عذب نغماته وسحر أجوائه”، وزاد: “كما وعدناكم ها نحن اليوم نقف أمامكم لنفي بعهودنا، ونجدد مواثيقنا، ونستحضر عبق ذكرى الجدود. نُدوزِنُ الآلات ونفتح الكنانيش لنشنّف أسماعكم بأعذب الألحان، وألذ الأنغام، وأجمل الأوزان”.
وأضاف المتحدث ذاته في المؤلف سالف الذكر حول هذه الدورة الـ17: “إنها نوبة عشاق سامقة، نسجت طبوعها على سلم نغمي سامي الدرجات، وتتهادى أشعارها العذبة على وقع الأدوار في وضح النهار”؛ وزاد: “إنها رحلة الجمال وصيحة الهزار، وإيقاع أوراق الأشجار وهي تتمايل برفق بين الخمائل والجلنار، وسحر الفجر الذي يشق عتمة الليل ليعلن ميلاد النهار”.
وتابع الموسيقي ذاته: “هي لوحة موسيقية متفردة تحتفي بمباهج الحياة ترفع رايات الطبيعة الخلابة وتطرب الأرواح العاشقة بجاذبيتها”، مسجلا أنها “تبعث الأمل في قلوب المحبين العاشقين، وتفتح أبواب الإلهام للمتيمين، حيث يتجسد التميز في أفق جديد يشرق بأنوار الأمل، ويهتف بأصوات المنابر، معلنا عن انطلاقة جديدة تحمل روح التلاقي بين الخوابي، وسط أجواء جلسات الغواني الساحرة”.
وواصل المتيوي: “سنلتفّ جميعًا حول مستعملات وصنعات نوبة العشاق، مستحضرين عبق التراث الأصيل وجمال التفرد الذي ينسج خيوط الماضي بالحاضر في لوحة من الفخر والاعتزاز. إنها فرصة سانحة لاستحضار ذاكرة أساطين هذا الطرب العريق، وفي مقدمتهم مبدع درج العشاق، الفنان الأصيل وسليل مدينة طنجة العلياء، المرحوم المعلّم العربي بن محمد السيار، وذلك في الذكرى الستين لرحيله”.
وسجل المتحدث أن “صفوف المحبين والولوعين والباحثين في حقل موسيقى الآلة شهدت نقلة نوعية ملحوظة، وأصبح دور ملتقى العبادي والمجموعة الفيسبوكية المنبثقة عنه واضحًا وبالغ الأثر”، مشيدا بـ”المستوى الرفيع الذي بلغته هذه المبادرة الفريدة، وهذه المجموعة المثابرة من داخل وخارج المغرب، التي لا تعرف الكلل ولا الملل، ولا تدخر جهدًا في نفض الغبار عن تراث تعرض لبعض الخمول المؤسساتي”.
في سيرة المحتفى به
العربي بن محمد السيار هو أحد أبناء مدينة طنجة البارزين في المجال الفني، ولد بها حوالي عام 1882؛ تلقى تعليمه الأولي على عادة أبناء مدينته، حيث حفظ القرآن الكريم في الكتاب، وفي صغره اعتاد مرافقة والده ‘المعلم’ محمد السيار إلى الزوايا، وهو ما ساهم في بناء أساسه الروحي والفني؛ وفي شبابه تلقى معارفه الموسيقية، وخاصة موسيقى الآلة، على يد ثلة من أعلام مدينة طنجة العريقة، وكان من أهمهم الفنان العربي المفرج.
وتقدم الجهة المنظمة للملتقى تفاصيل أخرى، منها أن مدينة طنجة في أوائل القرن العشرين شهدت نهضة موسيقية بفضل مجموعة من الفنانين المرموقين الذين كان العربي السيار من بينهم؛ ومنهم عبد السلام أحرضان، عبد القادر البويردي، عبد السلام الموقت وأخوه سيدي أحمد، مولاي أحمد الوزاني وأبناؤه، أحمد الفردي، أحمد الشاكة، المنشد الفريد عبد القوي بوطالب الحسن والحسين من دار الضمانة، وأحمد الرايس؛ كما سردت أنه “عندما رفض والده أن يجعل من الموسيقى مصدرًا لرزقه اتجه العربي السيار إلى التجارة، لكن شغفه بالفن لم يخمد قط؛ فقد كرّس ماله ووقته بل وخاطر بحياته خلال فترة الاستعمار الغاشم من أجل لقاء شيوخ الآلة والبحث عن الصنعات النادرة”، وزادت: “امتاز السيار بحافظة قوية مضرب المثل بصوت عذب وبراعة استثنائية في نقر ‘الطار’ الذي كان يستخدمه في قيادة المجموعات الموسيقية على طريقة ‘المعلمين’ الكبار؛ وإلى جانب ذلك كان واسع الاطلاع على البحور والأوزان الشعرية والإنشادات، ومتقنا أسرار الطبوع والنوبات، والإيقاعات، وأدوار ومستعملات الزوايا”.