غياب التساقطات المطرية يلف محصول الحبوب بالضبابية في المغرب
قاد تأخر التساقطات المطرية الموسم الفلاحي، وخصوصا محصول الحبوب، إلى المجهول، ما عزز توقعات بنك المغرب الصادرة خلال آخر الاجتماعات الفصلية لمجلسه الإداري بتراجع القيمة المضافة الفلاحية بنسبة 4.6 في المائة هذه السنة، على أساس عودتها للارتفاع بنسبة 5.7 في المائة خلال 2025، و3.6 في المائة برسم 2026، مع فرضية محاصيل حبوب قدرها 50 مليون قنطار.
ومنذ بداية خريف 2024 يعاني المغرب من فترة جفاف طويلة، إذ لم تسجل تساقطات في العديد من المناطق الفلاحية المهمة لمدة شهرين متتاليين، ليشكل هذا الغياب الطويل للأمطار مصدر قلق كبير للمناطق البورية، التي تعتمد على الزراعة المطرية، مثل الشاوية وعبدة والمناطق الأخرى في الوسط والجنوب، وهي المناطق التي تتم فيها زراعة الحبوب بين منتصف نونبر ومنتصف دجنبر، وتعاني اليوم من تأخ كبير في عمليات الإنتاج الفلاحي (الحرث والتسميد وغيرها).
وأجمع خبراء ومهنيون على تسبب الظروف المناخية الحالية في فقدان ثلث دورة الحبوب بالفعل، معتبرين أنه حتى مع هطول الأمطار بغزارة في الأسابيع القادمة فإنها لن تكون كافية لتعويض هذا التأخير، ومشيرين في المقابل إلى أن التساقطات المحتملة قد تتمكن من ترطيب الطبقات السطحية للتربة فقط، لتظل الطبقات العميقة التي تغذي جذور المحاصيل جافة، ما يهدد نمو المزروعات بشكل خطير.
وتسلط هذه الحالة الضوء على استمرار ضعف القطاع الفلاحي، رغم أهميته الإستراتيجية للاقتصاد الوطني، إذ يظل عرضة للصدمات المناخية، باعتبار أن نقص الأمطار والحرارة المرتفعة بشكل متكرر يزيدان من المخاطر التي تهدد محصول الحبوب، “بارومتر” نجاح الموسم الفلاحي، الذي أصبح مصيره غامضا حتى قبل نهاية الدورة الزراعية.
تكلفة عالية
بالإضافة إلى الظروف المناخية غير المواتية يواجه الفلاحون زيادة كبيرة في تكاليف المدخلات الفلاحية، بحيث وصل سعر قنطار القمح اللين إلى 400 درهم، بينما تجاوز سعر قنطار القمح الصلب إلى 600 درهم، فيما جعلت هذه الزيادة في الأسعار الإنتاج الفلاحي محفوفا بالمخاطر بالنسبة إلى الكثير من الفلاحين، الذين يترددون في الاستثمار في البذور، نظرا لعدم اليقين المناخي؛ علما أن هذه الزيادة أثرت أيضا، بشكل مباشر، على قدرات الإنتاج في ظل مناخ اقتصادي صعب، حيث أصبح العديد من الفلاحين يفضلون عدم زراعة المحاصيل، بدلا من المخاطرة بفقدان استثمارهم، في ظل تأثر بدائل فلاحية أخرى، مثل البقوليات والعلف، بالجفاف، ما حد من خيارات التنوع الفلاحي المتاحة أمامهم.
وأوضح محمد آيت أحمد، مهندس فلاحي وصاحب ضيعة فلاحية بأكادير، في تصريح لجريدة النهار، أن “ضعف السيولة لدى الفلاحين والقيود في الحصول على القروض الفلاحية من الأمور التي جعلت وضعية الإنتاج الفلاحية أكثر تعقيدا هذا الموسم، إذ إن بعضهم، من الذين لا يستطيعون تمويل عمليات الحرث والتسميد واقتناء البذور، اضطروا لبيع ماشيتهم بأسعار منخفضة لتقليل تكاليف العلف، فيما تقل التحملات المالية من قبل المقرضين، الذين أصبحوا حذرين في تمويل الفلاحين في ظل الجفاف المستمر”.
وأضاف آيت أحمد، في السياق ذاته، أن “الحلول قصيرة المدى لمعالجة تأثيرات تأخر التساقطات المطرية والجفاف على الموسم الفلاحي تظل قليلة وغير كافية، وبالتالي يجب إعطاء الأولوية للإصلاحات الهيكلية، من أجل تعزيز مرونة القطاع الفلاحي في مواجهة الصدمات المناخية”، داعيا إلى “إعادة النظر في السياسات الفلاحية، خصوصا في مجالات الري والدعم المستهدف وتشجيع تنوع المحاصيل، مع العمل على خفض تكاليف المدخلات الفلاحية العالية، التي تأثرت بموجات التضخم المتعاقبة”، ومشيرا إلى “ضرورة إعادة تقييم إستراتيجيات تدبير الموارد المائية لضمان توزيع أكثر عدلا وفعالية على جميع أنحاء المملكة، حيث ينبغي إيلاء اهتمام خاص للبنية التحتية للري في المناطق الأكثر تضررا من الجفاف، وضمان استفادة صغار الفلاحين من دعم مناسب”.
التفاوتات والمياه
يظل محصول الحبوب مهددا بشكل كبير بسبب تأخر الأمطار وارتفاع تكاليف الإنتاج، ما يفاقم تداعيات الأزمة الفلاحية الحالية، التي تتزامن مع سياق اقتصادي هش، حيث النمو ضعيف والسياسات الاقتصادية الحالية تبدو غير كافية لمواجهة التحديات الفورية للقطاع الفلاحي، ما يفرض على الحكومة اتخاذ خطوات إصلاحية جذرية، تدعم مرونة القطاع في مواجهة التغيرات المناخية؛ بحيث يجب أن تكون الفوارق المجالية وتدبير الموارد المائية على رأس أولويات السياسات الفلاحية المستدامة والشاملة، على اعتبار أن التفاوتات الجغرافية في هطول الأمطار والوصول إلى المياه تهدد بتفاقم التفاوتات الاقتصادية في المملكة.
وبالنسبة إلى مصطفى الناوي، مهندس فلاحي، ففي وقت استفادت بعض المناطق الشمالية، خصوصا في جهة طنجة-تطوان-الحسيمة، من الأمطار الأخيرة التي أعادت الحياة إلى الأراضي الفلاحية، وتمكنت من استئناف زراعة الحبوب والمحاصيل الأخرى، مازالت مناطق الوسط والجنوب تعاني من ظروف مناخية صعبة، مؤكدا أن “هذه الحالة تظهر هشاشة الفلاحة المغربية في مواجهة التقلبات المناخية، ما يبرز الحاجة الملحة إلى اعتماد إستراتيجيات لتدبير الموارد المائية وتطوير فلاحة أكثر مرونة تجاه التغيرات المناخية”، وموضحا أنه “في غياب إدارة فعالة وشفافة للمياه فإن هذه التفاوتات المجالية قد تزداد سوءا، ما يعرض الاقتصاد الوطني للخطر”.
وتابع الناوي، في تصريح لجريدة النهار، بأن “التفاوتات في توزيع الأمطار والوصول إلى المياه تشكل أحد أبرز المخاطر التي تواجه القطاع الفلاحي؛ فهي لا تؤثر فقط على الإنتاج المحلي، بل قد تعمق الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين المناطق، ما يزيد من هشاشة الاقتصاد الوطني، خصوصا في ظل السياسات الاقتصادية الحالية، التي تظل غير كافية لمواجهة تحديات القطاع الفلاحي”، مشددا على “الحاجة إلى اعتماد إستراتيجيات شاملة ومستدامة لتدبير الموارد المائية، وتطوير أنظمة فلاحية مرنة، قادرة على التكيف مع التغيرات المناخية”، وموردا أنه “من دون تدبير فعال للموارد المائية ستستمر هذه الفوارق في التفاقم، ما يهدد الاستقرار الاقتصادي بشكل عام؛ وبالتالي يتعين على الحكومة أن تضع هذه التحديات على رأس أولوياتها، من خلال إصلاحات جذرية في السياسات الفلاحية، بما يضمن استدامة القطاع في مواجهة التقلبات المناخية”.
تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News