في خضم التحولات الثقافية والاجتماعية التي شهدتها مدينة القصر الكبير عقب استقلال المغرب سنة 1956، برزت شخصيات استثنائية ساهمت في صياغة ملامح المشهد الحضاري المحلي. من بين هؤلاء، الراحل الحاج محمد بنونة، الذي لم تكن عدسته مجرد أداة لتوثيق اللحظات، بل نافذة على تاريخ مدينة نابضة بالحياة، تعكس تطلعات شبابها وروحها الثقافية.
في مقاله “محمد بنونة.. السياق والفاعلية”، يقدم الأكاديمي والأديب المغربي مصطفى يَعْلَى قراءة عميقة في مسيرة هذا الفنان العصامي، الذي حول شغفه بالتصوير إلى رسالة فنية وثقافية. ويؤكد يعلى أن محمد بنونة لم يكتف بتوثيق المناسبات الوطنية والاجتماعية وحياة الشباب في صور مبهرة، بل أضفى عليها روحًا تعكس هوية المدينة وخصوصيتها.
يتناول المقال تفاصيل في مسيرة محمد بنونة وإسهاماته الفنية الفريدة التي جعلت منه مرجعًا في فن التصوير الفوتوغرافي وذاكرة نابضة لمدينة القصر الكبير خلال عقود من التحولات.
محمد بنونة.. السياق والفاعلية
تضعنا سيرة المرحوم الحاج محمد بنونة وفاعليته الفوتوغرافية في سياق ثقافي قصري ناهض، شمل عددا من الحقول الحضارية، في مدينة القصر الكبير، غداة حصول المغرب على الاستقلال سنة 1956. من ذلك ظهور جمعيات ثقافية في المدينة، وفرق مسرحية مثل (عصبة الأطلس) و(الكواكب). كما نشط الإبداع الشعري، إذ اشتهر في الفترة شعراء معروفون على المستويين المحلي والوطني، نذكر منهم: محمد الخباز، محمد الخمار الكنوني، حسن الطريبق، المهدي زريوح، جعفر الناصري، محمد الصادق الشاوي، محمد الغربي.
وفي مجال التشكيل، برز كل من علي نخشى، ومحمد أطاع الله، والتهامي القصري، والمختار الناصري، ومحمد الحمري. وفي حقل الموسيقى، تألق عبد السلام عامر، مع وجود جوق السلاوي ذائع الصيت في المرحلة، الذي ضم عازفين متمكنين مثل الركراكي والروسي والتمسماني. وفي ميدان كرة القدم: اشتهر لاعبون بارعون أمثال الحبيب، وعبد الرحمن الرويفي، وفضول بوخلفة، والدوكي، وبوصمبو، ومسعود، والهادي.
ولا ينبغي في هذا السياق أن نغفل الدور الحداثي الذي لعبته السينما في عصرها الذهبي ذاك، حيث كان الإقبال على مشاهدة الأفلام متنفسا للشباب القصري، وفرصة لاطلاعه على المستجدات الحضارية عند الآخر المتقدم، خصوصا بعد افتتاح سينما أستوريا حوالي سنة 1953، لتلعب دورها التحديثي، إلى جانب مسرح بريس كالدوس المدشن سنة 1922، وكذا (السينما العريانة). على أن أهم حدث حصل في تلك الفترة كان هو فتح ثانوية المحمدي بـ(المحلة) سنة 1959. من غير أن نهمل الإشارة إلى تنظيم بعض الندوات والمحاضرات، التي كان الإقبال عليها مرتفعا، وأيضا وجب التذكير بالدور المعرفي الذي أدته مكتبة السعيد بباب السوق المركزي (البلاصا)، ومكتبة محمد بنجلون في القشاشين.
ولا ننسى كذلك صدور مجلة (الجذوة) سنة 1959، في مدينتنا القصر الكبير، تحت إدارة حسن محمد اطريبق، وتحرير كل من أبوسلهام الحلوفي وج. محمد العلمي (الوريغلي). ولعل الاقتباس الموالي من كلمة العدد الأول، يجلي التطلعات الثقافية لجيل الاستقلال، ووعيه بالثقافة الجادة ومستقبلها: ((هذا مجهود بسيط نقدمه للقراء الكرام، ونتمنى أن يجدوا فيه بعض ما يبحث عليه فكرهم من مواد الثقافة المختلفة التي صممنا على خدمتها وإبرازها في صورة نرجو أن تكون قشيبة تضاف إلى تلك الخدمات التي أنجزتها وتنجزها بعض المجلات وغيرها، وأن نجعل منها أيضا قوة إيجابية لصالح ثقافتنا))، ويعضد هذا التطلع كون الشباب المثقف بالمدينة كان يقبل بنهم على القراءة، ممتلئا طموحا وحيوية في مرحلة يَعِدُ أفقها بمستقبل مشرق متوقع.
ففي هذا السياق الحضاري، يتموضع انخراط فاعلية محمد بنونة في مجال استثمار التصوير الفوتوغرافي لتوثيق ذاكرة مدينة القصر الكبير المعاصرة. فبعد أن كان هذا التصوير في القصر الكبير مهنة مقصورة في الفترة على مصور إسباني موهوب، هو لويس ريكارت، ظهرت بعد الاستقلال أسماء معدودة من ممتهني فن التصوير، هم محمد بنونة وأحمد الهاشمي (بيوطة)، ثم إدريس التمسماني.
كانت مرجعية محمد بنونة في تكوينه الفني هي عصاميته. فقد أصبح، بسبب مثابرته وإخلاصه لفن التصوير، علامة فنية في هذا الميدان بالقصر الكبير، بعد أن احتضنه الإسباني لويس ريكارت، لما لمسه فيه من جدية ونباهة وأمانة؛ بل وفوت له فيما بعد أستوديو شارع محمد الخامس، لكنه ما لبث أن انتقل إلى محله بشارع القشاشين، وأخيرا انتهى به المطاف إلى الاستقرار عند أستوديو بنونة، بشارع سيدي أحمد التلمساني.
والحقيقة أن الأمر بالنسبة لمحمد بنونة ما كان يتعلق بمجرد مهنة امتهنها، بل كان ولَعا يرتقي إلى مستوى الحب. وهو ما يقف وراء حرصه على تطوير وسائل التفنن في عمله، من تلاؤم ضوئي وموازنة لونية وشدة التركيز وما إلى ذلك، واجتراح مختلف معطيات التجويد بذوقه وحسه الفني، من أجل إخراج الصور في حلة جميلة تسر النظر، بعيدا عن العشوائية والعفوية. ومن هنا، تأكدت قيمة الرجل، تلك القيمة المضافة، التي وقفت وراء إقبال أهالي مدينة القصر الكبير، وخاصة الشباب منهم، على التقاط صورهم التذكارية أو الإدارية في أستوديو بنونة.
وأذكر أنه كان للشباب القصري، بمناسبة الأعياد، ثلاث عادات: الذهاب قبيل العيد إلى الحمام البلدي، وإلى الحلاق، ثم زيارة أستوديو بنونة يوم العيد بالثياب الجديدة، من أجل أن تؤخذ لهم صور تذكارية ممتازة. وبهذا يكون قد توفر في أستوديو بنونة إرشيف من صور الشباب القصري، في مستهل مرحلة الاستقلال، وفي العقود الموالية. وأكيد أن الكثيرين منهم قد شاخوا الآن أو رحلوا عن دنيانا؛ لكن صورهم في هذا الإرشيف تبديهم شبابا ممتلئا حيوية وتطلعا، لا سيما أن محمدا بنونة كان يتلمس بخبرته مختلف الوسائل الفنية، من أجل تمثل أدق الملامح والتعابير عند إنجازها.
وفي هذا الصدد، سبق للصديق العزيز الشاعر مصطفى الطريبق، عجل الله بشفائه، أن فاجأني حين كان طالبا عندي بالمركز التربوي الجهوي في مدينة القنيطرة سنة 1982، بصورة جميلة لي في شبابي أدهشتني، عثر عليها في ذلك الإرشيف، علما بأن الصديق الأعز الشريف محمد العربي العسري يحتفظ برزمة نادرة من الصور المنجزة من لدن أستوديو بنونة في فترة الاستقلال، تنفعه فيما يصدره من كتب عن القصر الكبير راهنا.
بيد أن محمدا بنونة لم يكن يقتصر على ممارسة عمله في الأستوديو فقط، بل كانت فاعليته مستمدة من حرصه على ألا تفلت منه أية مناسبة، دون أن يتحرك بعين الكاميرا لتسجيل ذكراها. من ذلك، كما هو معروف، تصوير الفيضانات والمناسبات الاجتماعية والاحتفالات الوطنية والأقسام المدرسية والمباريات الرياضية.
وإذا كنت قد عايشت تلك المرحلة، وعاينت معظم ما سجلته هنا، فإنه يجوز لي أن أعتبر ما حققه المرحوم الحاج محمد بنونة من فاعلية فنية نشيطة في حقل التصوير الفوتوغرافي، خلال عقود متتالية، ذاكرة بل ذواكر معاصرة لمدينة القصر الكبير؛ لكنني في الآن نفسه أعتبره هو ذاته كان جزءا من ذاكرة القصر الكبير المشرقة.
وها هو بعد عمر من التأسيس والريادة والابتكار والفاعلية، ينهي توثيق مرحلة استثنائية من حياة القصر الكبير، ويرحل عنا فنانا وإنسانا، معززا مكرما، محبوبا من أجيال كان له الفضل في تسجيل مراحل حياتها بالكاميرا والصورة.
فلروحه الرحمة والسكينة والسلام.