فيلم “غلادياتور الجديد” يجسّد رخاء النّخب وبؤس الشعب في روما القديمة
فارس مُسيّس يعشق مقاتلة بربرية من شمال إفريقيا تضع وشما مميزا ينسِبها إلى جغرافية محددة. مقاتلة تشارك في محطة حربية تعكس بصمة خمسة قرون من المجد أو من النهب (غلاديتور 2، نونبر 2024، ريدلي سكوت). حرب لكسر كل مقاومة نتج عنها رَوْمنة شمال إفريقيا. يؤكد استخدام تعابير مثل (دجاج رومي، لباس رومي، زيت رومي) في 2024 وزن روما في تاريخ شمال افريقيا. وقد تعمقت الصلة حين صُور الفيلم بورززات في المغرب، حيث البراري البِكر والضوء الطبيعي ثابت لساعات طويلة وملائم جدا.
نرى الفارس المهزوم في شمال إفريقيا يصير عبدا روما… فقَد مُرشده مبكرا؛ لأن هذا رفض أن يقاتل ليتسلى المتفرجون. كان موته أشبه بانتحار بطولي للتحرر من العبودية والذل. في هذا السياق، يجب على الفارس الأسير أن يقاتل لكي يسلي أسياده الجدد الغارقين في النعمة والملل… بينما هو غارق في الغضب.
في خلفية المشهد مؤامرات سياسية وتحالفات انتهازية. وفي الواجهة حفلات مصارعة. لفتح أفق جديد للحِبكة تنتهي المواجهة بين الخصمين بالتعادل، كما في قتال أنكيدو وجلجامش.
تكمن المفارقة في وضع بطل حقيقي في خدمة بطل مزيف: لا يملك صفات البطولة. فجأة التقت مصلحة العبد والسيد على هدف واحد. إن “التطور الدرامي هو رحلة فقدان البراءة” (كين دانسايجر، فكرة الإخراج السينمائي، كيف تصبح مخرجا عظيما؟ ترجمة أحمد يوسف، المركز القومي للترجمة، ط1، القاهرة، 2009. ص46). يعي المقاتل حقيقته الجديدة. من يدخل الحلبة لن يصون براءته.
هكذا خلق السيناريست حبكة مشوقة.
رغم الغضب والقوة والدم الذي سال في الحروب الرومانية في شمال إفريقيا جرت في الفيلم معركة واحدة حسمت الصراع.
يعيد ريدلي سكوت النظرة الاستشراقية لمنطقة شمال إفريقيا. في كل قصة إفريقية قديمة هناك عبد. يُردد دينزل واشنطن بأن “حلم كل عبد هي أن يملك عبدا”. سابقا كتب المؤرخ عبد الله العروي: لقد “صور المؤرخون الأوروبيون سكان شمال إفريقيا بأنهم تروّموا – من روما- عن طيب خاطر. بذلك يُغيب المؤرخون وجهة نظر السكان الذين يقعون تحت السيطرة” مجمل تاريخ المغرب ص 92.
إن غلادياتور فيلم تاريخي سياسي عن روما العنف والقتل والأباطرة الطغاة، عن رخاء النّخب وبؤس الشعب، نخب تسوّي حساباتها بالغدر والمؤامرات وبرِهانات المقاتلين في الحلبة، كل حملات النهب والدم والنار في شمال إفريقيا تصير استعراضا من ذهب ومجد في روما المدينة المنقسمة مثل العالم المعاصر. هكذا يتم استعداء الماضي لفهم الحاضر. قصة غلادياتور اقتباس سينمائي لقصة سابقة ظهرت في أفلام أخرى (سبارتاكوس، 1960 ستانلي كوبريك).
يغادر الجنرال أكاسي مملكة نوميديا لإنقاذ مدينته المحبوبة روما، حيث يتقاتل الأمراء الأشرار. فجأة ظهر اللقيط المفقود وهو يعود إلى نقطة الانطلاق. هذه خطاطة سردية قديمة تحقق العوْد الأبدي. أمير روماني قح يعود يقاتل من أجل “روما مدينة مفتوحة” روما الحلم والعدالة. جنرال ديمقراطي في مواجهة تحلل النخبة السياسية المخملية. ينهزم القيادي الفاسد. يبدو أن الجنرالات هم أمل كل المدن.
على صعيد الأداء، ما معايير الكاستينغ؟ الجسد؟ المزاج؟ ثقافة الممثل؟ قدرة الممثل على التحول بين درجات نفسيات مختلفة؟
كان كاستينغ الدور الثانوي متفوقا على أداء البطل (بول ميسكال). في الفيلم كان بول ميسكال جسديا قويا وفنيا بعيدا جهة السفح عن أداء راسل كراو كلادياتور 2000. كان كاستينغ الدور الثاني أفضل من الدور الأول. لذلك يستحق أداء دينزل واشنطن وقفة خاصة. على صعيد كثافة كتابة الشخصية. يحاكي دينزل واشنطن سيرة العبيد ويحمل بصمة الكي على جلده. يؤدي دور كافور الإخشيدي، يُنصب قردا (المتنبي وكافور الإخشيدي؟) على العرش.
فنيا يتقمص دينزل دور العبد المقهور بصِدقية مدهشة. إنه ممثل كبير أسمر في دور العبد الذي يستمتع بملكية العبيد، عبد في مواجهة إمبراطورين مدللين.
هذا فيلم سياسي عن صراع شكسبيري عن السلطة… يحكم مدينة روما توأمان رضعا ذئبة ورضعا مؤامرات القصور. لذا يتقاتلان (هما نسخة من قابيل وهابيل وما زالا يظهران إلى اليوم في أيقونة قمصان نادي آيس روما لكرة القدم). بينما يتزايد جوع الشعب في لعبة العروش هذه نرى عبدا يتلاعب بالأباطرة. يعمل الإمبراطور على تحويل أنظار شعبه عن مشاكله الداخلية، يعمل بواجهة الأسد وبسلوك الذئب. “الغاية تبرر الوسيلة”. لم تظهر الميكيافلية مع نيقولا مكيافيلي. هو فقط سماها في كتابه “الأمير” 1513م.
يعلن سرد ريدلي سكوت عن هويته البصرية في ذهاب وإياب بين سينما الجماهير ذات الإيقاع السريع وسينما المخرج المؤلف الذي يعتمد البطء لكي يتسرّب المعنى إلى وجدان المشاهد.
هذا فيلم رجالي تُحل فيه المشاكل بالعضلات. لذا، فالنساء جَواري يمارسن النميمة. بصريا، الفيلم لوحة زيتية كبيرة دون أن تكون اللوحة كادرا ثابتا مملا. الحركة لا تتوقف في كوليزيوم مائي متخيل بتفاصيل باذخة ومقنعة… خمسة قرون من القتال في الكوليزيوم كساحة لتسلية وإلهاء الشعب… الشعب الجائع يتسلى ولا يعرف مصيره.
نقل ريدلي سكوت فرجة الكوليزيوم الرومانية إلى الشاشة العظيمة. جلب القياصرة أسراهم الأقوياء وأغرب الحيوانات وأضخمها من إفريقيا إلى روما لكسب رضا الجمهور. تُستخدم الدعاية الحيوانية لصناعة المجد والتفوق على المنافسين. الدعاية هي حرب على الوعي. هكذا صور ريدلي سكوت دور الدعاية في صناعة مجد الأباطرة في ساحة الكوليزيوم.
كوليزيوم مائي تؤطره سنابل الشاعر فيرجل (70- 19 ق.م) عن حياة غلادياتور، شاعر مقاتل في مهمة مقدسة. صارت حبوب المشهد الأول سنابل في اللقطة الأخيرة. لقد مر الزمن.
تساءل فيرجيل: ما هو الفن الذي ينتج حصادًا غنيًا؟
إنه فن صنع الاستعارة بالمحاكاة، فن منح الحسي أبعادا رمزية في الحكاية وفي اللقطة.
إنه فن السرد البصري ممزوجا بتحدي التنظير للفن.
الكوليزيوم استعارة للساحة السياسية. كوليزيوم يغرق فيه الكثيرون.
تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News