شكلت ساحة جامع الفناء القلب النابض لمدينة مراكش، على مر العصور مادة ملهمة للشعراء والأدباء والمؤرخين والمبدعين، وقيمةً تاريخية بارزة وعلامةً سياحية وثقافية متفردة، تستمد منها المدينة الحمراء إلى جانب مآثرها ومعالمها التاريخية ومدينتها العتيقة ومناظرها الطبيعية الخلابة، إشعاعها الثقافي والسياحي على الصعيدين الوطني والدولي، مما أهلها، لتتبوأ مكانةً عالمية رائدة، قبل أن تبادر منظمة اليونيسكو سنة 2008، إلى تصنيفها تراثا ثقافيا للإنسانية، باعتبارها أول موقع يتم إدراجه في قائمة التراث الشفوي واللامادي للإنسانية، لاسيما وأن هذه الساحة ظلت تشكل الفضاء الأمثل لتلاقي وتلاقح التقاليد الشفوية بمختلف تجلياتها وتمظهراتها.
وعلى الرغم من وجود اتفاقية موقعة لتهيئة وتثمين الساحة التاريخية منذ 2022، إلا أن المشروع الذي يدخل في إطار إستراتيجية المجلس الجماعي لمراكش لتأهيل وتثمين المدينة العتيقة والحفاظ على إشعاعها التاريخي والحضاري، لازال يراوح مكانه وأثار جدلا في أوساط العديد من الفعاليات المراكشية، ومجموعة من المهنيين وأصحاب المطاعم المتنقلة، الذين شرعوا في طرح مجموعة من التساؤلات حول مدى احترام المعايير والشروط التي سيجري الاعتماد عليها في إعادة تهيئة الساحة التاريخية ومراعاة مطالب المهنيين في التوزيع العادل والمنصف لتموقع المطاعم المتنقلة، خصوصا تلك التي عانى أصحابها من الإقصاء والتهميش في التهيئة السابقة.
وتهم أشغال مشروع تهيئة ساحة جامع الفناء وفق ما جاء في الاتفاقية المذكورة، تبليط الأرضية، التطهير السائل، التزويد بالكهرباء والماء الصالح للشرب لبعض الأماكن بالساحة حسب الأنشطة التي يمارسها صناع الفرجة خاصة “الحلايقية”، بالإضافة إلى تخصيص ثلاث أماكن للمطعمة في الفضاء المفتوح، وإعادة تهيئة حديقة البيلك والطرق وتنقيل محطة العربات المجرورة بالخيول “الكوتشي” الى موقع آخر ومناسب.
سؤال في البرلمان
لتحريك مشروع تهيئة وتثمين ساحة جامع الفنا التاريخية لرد الاعتبار إليها، وجه رشيد حموني النائب البرلماني رئيس فريق التقدم والاشتراكية بمجلس النواب، سؤالا كتابيا إلى فاطمة الزهراء المنصوري وزيرة إعداد التراب الوطني والتعمير والإسكان وسياسة المدينة، حول ضرورة تفعيل اتفاقية وبرنامج تأهيل ساحة جامع الفنا.
وقال النائب البرلماني في سؤاله الكتابي، إن ساحة جامع الفنا، تكتنفها، اليوم عدد من النقائص والسلبيات من حيث التعمير والمعمار، وعلى مستوى التدبير والتنظيم والبنيات التحتية والمرافق والتجهيزات الأساسية، مشيرا إلى أن إعادة هيكلتها وتأهيلها، بصورة ناجعة ومستعجلة، أصبحت مسألة في غاية الأهمية، لأجل رد الاعتبار إليها واسترجاع رونقها وصوْن مكانتها العالمية على جميع المستويات، ولأجل النهوض بها من خلال برامج تنموية تعزز جاذبيتها الثقافية والاقتصادية والسياحية، وبغاية ضمان استدامتها كموروث وطني وعالمي وإنساني.
وتساءل النائب البرلماني حول مبررات تعثر تفعيل البرنامج الموضوع تحت إشراف الوزارة عبر شركة العمران، والمتعلق بإعادة هيكلة وتهيئة وتثمين ساحة جامع الفنا، والتدابير التي يتعين على الوزارة اتخاذها، على وجه السرعة، لأجل تجاوز هذه الوضعية غير السليمة، والإسراع في القيام بما يلزم للنهوض بهذا الموقع التاريخي والوطني والإنساني المتفرد.
اجتماع للإنصات
ومن أجل تدارك هذا التأخر، انكب فريد شوراق، والي جهة مراكش أسفي، منذ تعيينه، على ايلاء هذا الملف الأولوية، حيث عقد اجتماعات مع الجهات الرسمية المعنية، ومن خلال ممثلي السلطة المحلية مع الجمعيات المعنية بتأهيل ساحة جامع الفناء، كرابطة الإخلاص التي تمثل تجار الأسواق المحيطة بالساحة، بحضور النائب الأول لرئيسة جماعة مراكش، الذي قدم تصورا عن هندسة تأهيل ساحة جامع الفناء.
وخلال هذه الاجتماعات، دعا والي جهة مراكش آسفي إلى احترام الآجال المسطرة دون الإخلال بجودة الأشغال مع الحرص على اتخاذ الإجراءات اللازمة لتنفيذها بطريقة معقلنة، تسمح بالسير العادي للأنشطة التجارية والاقتصادية الممارسة ودون الإضرار بها، مؤكدا على أهمية مواصلة استشارة المنتخبين ومختلف الفاعلين بالساحة من ممثلي التجار والحرفيين وجمعيات المجتمع المدني المعنية، وكذا الخبراء المختصين في هذا المجال.
رؤية جمعية منية
قال جعفر الكنسوسي رئيس جمعية “منية مراكش لإحياء تراث المغرب وصيانته”، في مقال تقديمي لمجلة “دفاتر تراث مراكش والجهة”، التي خصصت عددها الثالث لساحة جامع الفنا “في الوضع الراهن، هناك اقتران تاريخي يتيح تحقيق إحياء هذه الساحة التاريخية، والإدارة هي الضامن”، مضيفا أن هناك مشروعين جديدين بالساحة، يتعلق الأول بمتحف مخصص للتراث غير المادي، والثاني بإعادة تأهيل الميدان بأكمله، مؤكدا أن المكان يتطلب قبل كل شيء هندسة ثقافية وتجديد ذلك السحر وسلطانه الآسر وما لديه من سر.
وإذا كان المشروع الأول المتمثل في إحداث متحف مخصص للتراث غير المادي رأى النور، فإن تأهيل الساحة ما زال يراوح مكانه، ما جعل الكنسوسي يقول بمرارة “من الواضح أن أهل القرن الجديد لن يجدوا ذكرى لهذا المكان، إلا إذا كانت العزيمة قوية لإحياء هذا التراث العتيق وإنقاذه”.
وحسب جمعية “منية مراكش لإحياء تراث المغرب وصيانته”، فإن ساحة جامع الفناء تعاني من استمرار العديد من مظاهر الريع والانحرافات على مر السنين في جملة من الجوانب، منها تشويه الواجهات المحيطة بالساحة من خلال البنايات غير القانونية من نوعها العشوائي، التي لا تحترم معايير تخطيط المدن المعمول بها، أو سلامة الناس، أو جمالية المكان. والتطاول في البناء “اللافتات التجارية المهيمنة”، استخدام مواد غير متوافقة وغير منسجمة مع روحانية المكان.
وأضافت الجمعية أن هذه كلها عناصر في تناقض صارخ مع السلطة القانونية لظهير الحماية الذي أصدره السلطان مولاي يوسف عام 1922.
وأشارت الجمعية الى أن ” المشكل الثاني هو الاستيلاء على الفضاء من لدن أكشاك الطعام والشراب، وكذلك الفراشة (الباعة الجائلين). فبقوة الظروف، أسهم هؤلاء في تقليص المساحة المخصصة للحلقة التي هي روح جامع الفناء. ومن تم ، فإن الوهم السياحي قد أخفى حالة الإهمال في مواجهة الاستيلاء على الفضاء من قبل مصالح مبالغ فيها لبعض الخواص”.
واستدلت جمعية منية على هذا الوضع قائلة “تضررت صورة السياحة، وابتعد المراكشيون تدريجيا عن الساحة، وتخلوا عنها للسياح ولمن يرافقهم، وهؤلاء يشعرون الآن بعدم الارتياح. فحتى بالنسبة إليهم، لا يتم في نهاية المطاف، تقديم أي شيء من شأنه أن يكون له بعد ثقافي في المكان، وهذا ما تؤكده آلاف التّعليقات على المواقع السياحية، تشير إلى أن أغلبية الوافدين الجدد لن يعودوا بسهولة”.
ووفق رؤية جمعية منية مراكش، فإن تدخلا قويا من شأنه أن يعيد للساحة روحها ووظيفتها، وينبغي له أن يتخذ غايته إلى ما هو فوق أعمال التجميل، مشيرة الى أن انفاق مبالغ كبيرة على إصلاح الواجهات، فإن جوهر المشكل سيبقى مطروحا: “فمباشرة الإصلاح في الساحة من شأنه أن يكرس واقعا مخالفا لقوانين التعمير عندما تشمل الإصلاحات بنايات غير مرخصة. وهنا يأتي دور الجمعيات التي تمثل المجتمع المدني، وبصفتها أحد مكونات المجتمع المدني، تقترح هذه الجمعية تزويد الإدارة بخدمة إحياء رسوم جامع الفناء من جديد. فمن خلال ورشات للتفكير، ستتم صياغة مقترحات ومقاربات لمستقبل الساحة، وسيشكل هذا الاقتراح منصة لتأسيس ميثاق “حرم جامع الفناء” يفتتح إطارا جديدا يجد فيه المتعهدون ورواد الساحة إجابات على تساؤلاتهم، مع إعادة التأكيد على المطالب الملحة لأهل مراكش وتطلعات المغاربة وانتظارات الزوار”.
تصميم المطاعم الجديد
وبخصوص التصميم الجديد للمطاعم المتنقلة التي تؤثت ساحة جامع الفناء والبالغ عددها 64 مطعما، دعا عبد الغني فليليس، رئيس جمعية رواد ومعلمي الطبخ الأصيل بساحة جامع الفنا، الى الحفاظ على سحر أيقونة مدينة مراكش، وعلى تقاليدها المغربية، من قبيل الهندام الأصيل، وشكلها الهندسي، وجودة الأكل الأصيل بكافة أنواعه، وعلى رأسه الطنجية، مؤكدا على ضرورة ملائمة الإنارة مع سحر المكان، والتفكير في بقاء المطاعم في مكانها، لأن تركيبها وإعادة تفكيكها متعب جدا.
وللرقي بسمعة وصورة هذه المطاعم، أجمعت تصريحات متطابقة لفاعلين سياحيين بمدينة مراكش، على ضرورة إخضاع المستخدمين بها للتكوين حتى يكتسبوا قواعد تقديم الأكلات بهندام نظيف وأسلوب يجذب السائح، ويضمن جمالية المكان الذي يشكل مصدر المتعة والأسرار الحضارية التي تنهل من عبق التاريخ.
من جانبها، أكدت مريم أمال رئيسة جمعية حرفيي الحلقة والفرجة والتراث وجميع الفنون بساحة جامع الفناء، على ضرورة تحسين وضعية العاملين في جامع الفنا في مجال فنون الفرجة و”الحلقة”، الذين ينتمون إلى الطبقة الهشة، ويحتاجون إلى الدعم والمواكبة، وتحسين حالتهم المادية والمعنوية، مبرزة أن هذه الساحة ورغم فقدانها لمعظم روادها، فإن “الحلايقية” الجدد أدخلوا بعض التحسينات على فن الحلقة لتقديم منتوج جديد للفرجة.
وأشارت آمال الى أن أهم العروض المقدمة بالساحة تسعى إلى تقديم فرجة وفكاهة ذات مضمون محترم، داعية إلى ضرورة الحفاظ على الطابع الأصيل لهذه العروض وأشكال الفرجة عموما، حتى تبقى في مستوى تطلعات الزوار.