أثارت الاضطرابات الأخيرة في المملكة المتحدة تحديات جديدة أمام الديمقراطيات الغربية، كاشفة عن الاعتماد الكبير لهذه الدول على شركات التكنولوجيا العملاقة. وبينما تواجه الحكومات صعوبة في إدارة تأثير هذه التقنيات على السياسة والثقافة والمعلومات، أصبح من الواضح أن الأدوات المتاحة لمواجهة هذه الأزمات، مثل التنظيمات البطيئة والإجراءات القاسية، ليست كافية. هذه الأزمات تضع الديمقراطيات الغربية في مواجهة حقيقية مع واقع تأثير التكنولوجيا على حياتها اليومية وقدرتها على الحكم.
ويقول الباحث أليكس كراسودومسكي في تقرير نشره المعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني (تشاتام هاوس) إن انتشار نظريات المؤامرة والمعلومات المضللة على المنصات الرقمية أدى إلى تأجيج العنف الذي أثر على المملكة المتحدة خلال الأسبوع الماضي. وبالنسبة للكثيرين في الحكومة وخارجها، يقع اللوم بشكل رئيسي على منصة “إكس”، المعروفة سابقا باسم “تويتر”، ومالكها إيلون ماسك، الذي دخل في خلاف شخصي مع رئيس الوزراء كير ستارمر بشأن هذه الاضطرابات.
ويقول صناع القرار في المملكة المتحدة إنهم حذروا شركات التكنولوجيا “من الترويج للأضرار التي يسعى البعض من خلالها إلى إلحاق الضرر بالمجتمع وتقسيمه”، لكن مع عودة هؤلاء المسؤولين أنفسهم إلى المنصات نفسها لنشر تلك التحذيرات، واستخدام زملائهم في الحكومة هذه المنصات لشكر المجتمعات المحلية وأجهزة إنفاذ القانون، يتضح بشكل متزايد أن تقنيات مثل “إكس” تشكل أجزاء حيوية من البنية التحتية الاجتماعية والسياسية والثقافية، وأن الاستعانة بمصادر خارجية لهذه البنية التحتية تأتي بتكلفة باهظة.
الخرافة التي سادت في العقدين الماضيين تمثلت في أن هذه المنصات الرقمية العملاقة غير سياسية. وشركات التكنولوجيا، التي نمت لتصبح من أكبر الشركات في العالم بفضل قدرتها على استهداف الإعلانات بشكل أفضل من أي جهة أخرى، لم تكن، بشكل متناقض، قادرة على تغيير القلوب والعقول السياسية.
وفي حديثه عام 2016 وصف مارك زوكربيرغ فكرة أن المحتوى على “فيسبوك” أثر على الناخبين الذين كانوا يختارون بين هيلاري كلينتون ودونالد ترامب بأنها “فكرة مجنونة نوعا ما”. وأعرب منذ ذلك الحين عن ندمه لأن هذا الرد كان متسرعا للغاية، واتخذ مع معظم المنصات خطوات لتهدئة صناع القرار. وفي عام 2018 أطلق “فيسبوك” أرشيفا للإعلانات السياسية، التي تم عرضها على المنصة في محاولة لتعزيز الشفافية. وتبع “غوغل” هذا النهج في العام التالي، بينما اتخذ “تويتر” خطوة أبعد بحظر الإعلانات السياسية تماما. كما أن “تيك توك” لديه سياسة ضد الإعلانات السياسية.
ويقول المنتقدون إن هذه السياسات ليست غير كافية فقط للتخفيف من التسييس المكثف لهذه المنصات التكنولوجية، بل إن تصميم هذه المنصات نفسه يجسد نوعا جديدا من السياسة؛ سياسة تقيس تأثيرها باستخدام المقاييس نفسها التي يعتمد عليها المعلنون، وهي عدد النقرات والمشاهدات والتفاعل. وستظهر لك عشر دقائق على منصة وسائل التواصل الاجتماعي ذلك بوضوح، على عكس ما كانت تدعيه من قبل الشركات التي تديرها، فهي تشكل أجزاء أساسية من البنية التحتية السياسية، وهي بوتقة يتشكل فيها الملايين ويشاركون فيها رؤاهم السياسية.
ومع ذلك كانت رسالة الصناعة واضحة، وهي أن شركات التكنولوجيا كانت تسعى جاهدة لتكون كيانات محايدة وغير سياسية.
ويرى كراسودومسكي أنه منذ عام 2022 خالفت منصة “إكس” هذا الاتجاه. ولم يتردد إيلون ماسك، المستخدم الأكثر متابعة على المنصة، في الانغماس في السياسة. وتم رفع حظر الإعلانات السياسية الذي كان مفروضا منذ عام 2019 في يناير من العام الماضي. وتمت مقاضاة منتقدي “إكس”، (ولم يتم الاهتمام بالقضايا).
وفي الأسبوع الماضي قام بتضخيم رسائل تندد برد فعل المملكة المتحدة على الاضطرابات الأخيرة، وشارك منشورات تفيد بأن “الحرب الأهلية حتمية” ووسما مرتبطا بالادعاء بأنه تحت قيادة ستارمر تعاملت سلطات إنفاذ القانون في المملكة المتحدة بشكل أكثر تساهلا مع العنف من قبل الجماعات اليسارية مقارنة باليمين، وهو اتهام رفضه رئيس الوزراء ورئيس شرطة العاصمة.
وقوبل استخدام ماسك للمنصة التي يمتلكها بالاستنكار. ووصفت الأصوات البرلمانية في المملكة المتحدة تعليقاته على العنف في المملكة بأنها “مؤسفة للغاية” و”لا مبرر لها”. وحذر رئيس الوزراء الإيرلندي سيمون هاريس بأنه سيتم فرض عقوبات مالية جديدة ومسؤوليات شخصية على شركات وسائل التواصل الاجتماعي في إيرلندا. وفي وقت سابق من هذا العام قال ماسك أثناء تلاسن مع المفوضية الأوروبية إنه “يتطلع إلى معركة علنية جدا في المحكمة”.
وتبين أن منصة “إكس” تخرق قانون الخدمات الرقمية الأوروبي. وينكر ماسك هذه النتائج، وقد دفع هذا الأمر إلى حدوث مناقشات مع الاتحاد الأوروبي. ويبدو أنه من المحتمل أن تواجه الشركة مشاكل مشابهة مع قانون السلامة الإلكترونية البريطاني عندما سيدخل حيز التنفيذ في وقت لاحق من هذا العام. وقد زادت في الأيام الأخيرة أهمية تحديث القوانين المتعلقة بوسائل التواصل الاجتماعي، رغم أن هناك شكوكا حول ما إذا كانت هذه العقوبات ستكون كافية لضبط المجال العام الواسع لتقنيات تبادل المعلومات التي نستخدمها يوميا.
لقد أصبحت الديمقراطيات الغربية تواجه مؤخرا حقيقة قاسية، هي أن البنية الأساسية التي تجرى عليها سياسات بلدانها وتبادل المعلومات أصبحت غير متوافقة على نحو متزايد مع قيمها. فالتكنولوجيات التي كان ينظر إليها ذات يوم بكونها غير ضارة، أو ربما حتى إيجابية القيمة لانتشار الأفكار الليبرالية أو الغربية، أصبحت غير مقيدة وعرضة لسوء الاستخدام، ويصعب تطويقها أو تنظيمها.
والبدائل غير موجودة، إذ لا توجد منصة تواصل اجتماعي لهيئة الإذاعة البريطانية على سبيل المثال.
ولم يتم الشعور بالانفصال بين الحكومات والتقنيات التي تشكل أساس ثقافات بلدانها وسياساتها وبيئات معلوماتها بهذا الوضوح من قبل. وتدرك الحكومات أهمية تقنيات الاتصال الرقمية، لكن قدرتها على إدارة هذه التقنيات تبدو أحيانا محدودة في ظل الظروف الحالية.
وتبدو الأدوات المتاحة لها إما غير كافية أو قاسية، ما بين التنظيمات البطيئة والكلمات القوية والرسائل المفتوحة من جهة، والحظر وقطع الإنترنت التي تستحق الانتقادات بسبب عدم ليبراليتها من جهة أخرى.
وتاريخيا كان من الممكن التنقل في المنطقة الرمادية بين الاثنين. لكن الأسبوع الماضي جعل هذه العملية تبدو أكثر صعوبة.