مع انتهاء دورة الألعاب الأولمبية “باريس 2024″، اليوم الأحد، تغوص فرنسا من جديد في المأزق السياسي الذي تتخبط فيه منذ أسبوعين، مع أولوية مطلقة لتعيين رئيس وزراء الجديد.
والهدنة السياسية التي كان يتمناها الرئيس إيمانويل ماكرون فرضت نفسها، إذ نظمت فرنسا الألعاب الأولمبية؛ فاستقبلت العالم وسط أجواء احتفالية؛ وحصد رياضيوها مجموعة من الميداليات.
وبدت هذه الفترة من البهجة استثناء في بلد أكثر ميلا إلى التشاؤم والتذمر، حتى أن صحيفة “وول ستريت جورنال” كتبت ساخرة: “أكبر مفاجأة في دورة باريس للألعاب الأولمبية: حتى الفرنسيون لم يجدوا مأخذا”.
أما الآن، فيتعيّن على ماكرون استخلاص العبر من الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليه بصورة مفاجئة في أواخر يونيو ومطلع يوليوز الماضيين، والتي أفرزت ثلاث كتل بدون غالبية؛ ما بين تحالف يساري تشكل بصورة مفاجئة تحت تسمية “الجبهة الوطنية الجديدة”، و”الكتلة الماكرونية” المتحالفة مع “اليمين الجمهوري”، و”التجمع الوطني” اليمين المتطرف.
وإن كانت حكومة غابريال أتال استمرت بعد الانتخابات لتصريف الأعمال، فمن المتوقع أن تدعو الأوساط السياسية ماكرون إلى تنفيذ وعده بتكليف رئيس وزراء تشكيل حكومة جديدة بحلول منتصف غشت الجاري.
وقال الخبير السياسي ستيفان روزيس: “في بلد يشهد شرخا مثل فرنسا، الرياضة تقليد يسمح للأمة بأن تجد نفسها بدون وساطة سياسية”، مضيفا: “لكن سرعان ما سنصطدم بالواقع … المنبثق من الانتخابات”.
وعشية انطلاق الأولمبياد، طرح اليسار اسم لوسي كاستيه، الذي يبلغ من العمر 37 عاما، لتولي رئاسة الحكومة؛ لكن ماكرون اعتبر أن الجمعية الوطنية لن تتأخر في الإطاحة بها.
“ما زال يفكر”
يواصل الرئيس ماكرون مساعيه لتشكيل غالبية متينة حول الكتلة الوسطية محاولا ضم الاشتراكيين إليها؛ في حين يتهمه خصومه برفض حكم صناديق الاقتراع.
ولم تتسرب أي معلومات في باريس عن المشاورات الجارية، واكتفى أحد المقربين من ماكرون بالقول إنه “ما زال يفكر”.
وبعدما طرح عقد اجتماع لمجلس الوزراء الاثنين، أرجئ إلى وقت لاحق وعلق أحد أعضاء الحكومة: “من يقول لكم إن لديه أصداء فهو إما كاذب أو متوهم”، لكن فترة “التفكير” هذه لا يمكن أن تستمر.
ولفت مصدر وزاري الانتباه إلى أن “الضغط الداخلي سيكون قويا جدا، لأنه سيتحتم إقرار الميزانية” في شتنبر؛ فيما اعترف المعسكر الرئاسي بأن الفرنسيين يجب أن “يشعروا بأن أصواتهم تتحقق”. وتوقع البعض في أوساط ماكرون صدور إعلان بحدود 20 غشت الجاري.
وترد أسماء وزراء سابقين، سواء من اليمين أمثال كزافييه برتران وميشال بارنييه وجان لوي بورلو، أو من اليسار المعتدل على غرار برنار كازنوف؛ لكن إن كانت دول ديمقراطية أوروبية كثيرة تتعامل منذ عقود مع ائتلافات برلمانية هشة (حكومة أقلية)، فإن فرنسا لم تنجح يوما في ذلك.
ناخبون محبطون
لا بد أن يتمتع رئيس الحكومة المقبل بهيبة معنوية وخبرة سياسية، حتى يضطلع بمهمة جمع فريق متماسك وإبرام “اتفاق حكومي” من شأنه أن يقنع غالبية من النواب في الجمعية الوطنية، ولو بشأن كل ملف على حدة.
تمكن ماكرون من الخروج، لفترة وجيزة، من المأزق السياسي الكبير الذي أثاره بحله الجمعية الوطنية؛ غير أن المراقبين يعتبرون أنه سرعان ما سيضطر إلى مواجهة الواقع المرير، الذي نتج من أسوأ قرار اتخذه خلال ولايتيه الرئاسيتين.
ولم تبدل أجواء البهجة، التي واكبت دورة الألعاب الأولمبية “باريس 2024″، جوهر الوضع في فرنسا.
ورأى إيمانويل ريفيير، خبير الرأي العام، أن “هذا يبدل الأجواء العامة؛ لكنه لا يبدل المعطيات السياسية”.
ويقول الخبير عينه إن “الوضع لا يزال في مأزق، ويشعر العديد من الناخبين بخيبة أمل… الفرنسيون يبقون الواقع نصب أعينهم وما زالوا ناقمين على إيمانويل ماكرون”.
ثمة سابقة حين استفاد الرئيس جاك شيراك، عام 1998، من فوز المنتخب الفرنسي بكأس العالم لكرة القدم في باريس، فازدادت شعبيته بعشر نقاط مئوية، متخطية 60 في المائة من الآراء الإيجابية، غير أن ماكرون لن تكون له هذه الفرصة، إذ كشف استطلاع للرأي أجراه معهد “إيلاب”، في أواخر يوليوز الماضي، أن ثقة الفرنسيين برئيسهم تقدمت نقطتين فقط؛ إلى 27 في المائة.
وقال مسؤول في المعسكر الرئاسي: “سيكون هناك نوع من التسامح في فترة ما بعد الأولمبياد؛ لكنه لن يستمر طويلا”، مضيفا: “إذا كنا التقطنا صور ‘سيلفي’ أمام المرجل الأولمبي مع نصف باريس، فهذا لا يعني أننا سنشكل فجأة ائتلافا”.