رصدت الإحصائيات النقدية الصادرة عن بنك المغرب تسلل 32.5 مليار درهم من الأوراق النقدية (الكاش) إلى الأسواق خلال يونيو الماضي، مقارنة مع الفترة ذاتها من السنة الماضية، ليتجاوز حجم الرواج النقدي سقف 420 مليار درهم، بزيادة نسبتها 8.4 في المائة على أساس سنوي، ما يؤشر على منحى تصاعدي خطير، يهدد بإنعاش القطاع غير المهيكل، ويؤثر سلبا على الموارد الدولة، خصوصا الجبائية منها، ويؤكد أيضا توقعات البنك المركزي السابقة بنمو الرواج المذكور في المتوسط بـ6.5 في المائة خلال السنتين الجارية والمقبلة.
ودخلت لعبة السلطات مع “الكاش” أشواطها المملة، بعد أشهر من إبداء القلق وإعلان النفير بشأن هذه المشكلة متعددة التأثيرات والأبعاد، خصوصا أن تنامي إقبال المغاربة على الأوراق النقدية (الكاش) حير هذه السلطات، وعلى رأسها عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب، الذي لم يخف خلال أشغال ندوة صحافية أعقبت اجتماعا فصليا للمجلس الإداري للبنك المركزي، قلقه إزاء استفحال الظاهرة وتأثيرها على السوق النقدية والسيولة لدى البنوك، ولمح إلى مراقبة الوضع خلال الفترة المقبلة وبحث حلول جدية واستعجالية.
وإلى حدود اليوم مازالت الإحصائيات الواردة عن المؤسسة التي يديرها الجواهري ترصد ارتفاعا متزايدا في حجم الرواج النقدي، ما يكشف عن محدودية الإجراءات المتخذة من أجل احتواء تداعيات “الكاش”، خصوصا ما يتعلق بتحفيز العمل بوسائل الأداء الإلكترونية، في وقت عجز البنك المركزي عن الإدلاء بتفسير حول الاختلالات المسجلة على مستوى إدارة الكتلة النقدية، على اعتبار أنه بين 60 في المائة و80 من الأوراق النقدية (الفئة الكبيرة) المتداولة في 2021 كانت مدخرة، أي ما يمثل 20 في الناتج الداخلي الخام، وفق نتائج دراسة سابقة للبنك.
الادخار بـ”الكاش”
قابل تراجع عدد الوكالات البنكية بناقص 103 وكالات خلال سنة واحدة فقط (5802 وكالات) نمو في عدد الشبابيك الأـوتوماتيكية البنكية بزائد 79 شباكا (8242 شباكا)، التي يستخدمها المغاربة لغايات السحب النقدي أساسا، ما يحيل على توجه البنوك بشكل غير مباشر إلى تحفيز التعاملات بـ”الكاش”، خصوصا أن مساهمة إغلاق الوكالات بشكل كبير في تخفيض التكاليف التشغيلية للبنوك رفعت في المقابل مستوى التحديات والمخاطر على السيولة البنكية، ما يتطلب رفع الاستثمارات في التكنولوجيا المالية وتعزيز التربية المالية لتحقيق الشمول المالي، وتقليص الاعتماد على الأوراق النقدية.
وبالنسبة إلى محمد أمين مدغري العلوي، محلل اقتصادي ببنك للأعمال في الدار البيضاء، فالمغرب ظل يعاني من مشكلة دولية مع “الكاش”، لكنها أصبحت أكثر حدة بالنظر إلى استمرار ضعف استعمال وسائل الأداء الإلكترونية، موضحا أنه “منذ سنوات تواجه العديد من الدول تناقضا ظاهريا على مستوى استعمال الأوراق النقدية، ذلك أنه رغم انخفاض استخدام النقد في المعاملات اليومية لصالح قنوات الأداء الإلكترونية والمحمولة، إلا أن الطلب الإجمالي على الأوراق النقدية والعملات المعدنية مستمر في الزيادة، ما يؤكد الاستخدام المتزايد للنقد كاحتياطي للقيمة، وذلك لأغراض الادخار”.
وأضاف مدغري العلوي، في تصريح لجريدة النهار، أن “تزايد وتيرة استخدام الأوراق النقدية لأغراض الادخار يقلق البنوك المركزية بشكل عام، إذ إن المستويات العالية من الادخار يمكن أن تصعب عملية تدبير وإدارة السياسة النقدية وتهدد الاستقرار المالي”، موردا أن “بنك المغرب مطالب حاليا بإجراء بحث لبلوغ فهم أفضل لدوافع المغاربة عند الادخار بواسطة ‘الكاش’، وما يترتب على ذلك من تأثير سلبي على الكتلة النقدية”، ومشيرا إلى أن “التفسيرات المتاحة حاليا لا تخرج عن حقيقة وجود مدخرات غير بنكية كبيرة وقطاع غير مهيكل مهم، ما يطيل دورة حياة الأوراق النقدية في الدوائر المغلقة لهذا القطاع”.
القطاع غير المهيكل
لم يتردد عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب، في التذكير بالتحديات الكبيرة التي يمثلها تمدد القطاع غير المهيكل في العديد من الأنشطة الاقتصادية، إذ اعتبر خلال استعراضه مضامين التقرير السنوي بين يدي الملك محمد السادس أخيرا أن هذا التمدد سبب رئيسي في تنامي الاستخدام الكبير لـ”الكاش” في المغرب، منبها إلى العواقب المترتبة على هذا الوضع، خصوصا على مستوى الإنتاجية وجودة التشغيل، ناهيك عن التكاليف المرتبطة برواج النقد، سواء من حيث إنتاجه أو توزيعه، وكذا المخاطر المرافقة له، المتعلقة بانعدام الأمن، والأنشطة غير المشروعة والتهرب الضريبي.
واعتبر محمد يازيدي شافعي، خبير اقتصادي، “الكاش” بمثابة “أوكسجين يضمن حياة ونشاط القطاع غير المهيكل”، مردفا بأن “النقد يمثل وسيلة سريعة وسهلة للتبادل في المعاملات اليومية، ما يجعله مناسبا للأنشطة غير المهيكلة، التي تتطلب تسويات فورية”، ومشددا في تصريح لجريدة النهار على أن “التعامل بالأوراق النقدية يعفي الأفراد والتجار الصغار من تحمل التكاليف المرتبطة بالعمليات البنكية، خصوصا في المعاملات صغيرة الحجم”؛ كما أشار إلى “خطورة المستويات العالية من النقد المدخر التي يمكن أن تعقد تنفيذ السياسة النقدية، بما يصعب التحكم في الكتلة النقدية”، منبها أيضا إلى أن “تفاقم استخدام النقد في القطاع غير المهيكل من شأنه زعزعة الكتلة النقدية، والتأثير سلبا على استقرار النظام المالي”.
وأفاد يازيدي شافعي، في السياق ذاته، بأنه من أجل تقليص اعتماد القطاع غير المهيكل على النقد وتحسين دمجه في القطاع المهيكل يتعين على السلطات المالية اتخاذ مجموعة من الإجراءات، من قبيل توسيع الولوج إلى الخدمات البنكية وقنوات الأداء الإلكترونية للأفراد والشركات، خصوصا في “القطاع غير المهيكل”، مؤكدا “أهمية تقديم تحفيزات للأنشطة غير المهيكلة من أجل تسوية وضعيتها القانونية والجبائية، من خلال تخفيض الضرائب أو تقديم الدعم التقني، إضافة إلى تعزيز الأنظمة الرقابية والجبائية لتقليل التهرب الضريبي، وكذا عبر دعم الشفافية المالية”.