هذه تحولات الصراع العالمي في الحرب والثقافة والديموقراطية والذكاء الاصطناعي

قدّم الباحث والناقد إدريس القري أهم تحولات الصراع العالمي في الحرب والثقافة والديمقراطية والذكاء الاصطناعي، باسطا نظرة على تاريخية هذا التشابك المُعقد الذي مكّن مهندسي ومقرري الحرب من توظيفٍ شامل لما يمكنه التأثير على المادي وغير المادي، البدني والنفسي والعقلي والمعرفي بل والروحي أيضا في الإنسان.

وأضاف الباحث ذاته، ضمن مقال توصلت به جريدة النهار، أن الحرب لم تعد تقتصر عل العنف المادي العسكري، كما كانت دائما ومنذ صراعات الإنسان البدائي على الغذاء وعلى النار؛ بل أصبحت الحرب تستعمِلُ وتُوظِّف كل شيء ممكن لتحقيق السيادة والهيمنة.

وشدد على أن تطور الصراعات العالمية وتوظيف الذكاء الاصطناعي والثقافة والديمقراطية كذلك يطرح التحديات الأخلاقية والقانونية، حيث يثير استخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب مخاوف وأسئلة وإشكاليات أخلاقية بشأن اتخاذ القرارات المستقلة وسلامة المدنيين.

نص المقال: 1ـ إشباع الحاجات والسعي إلى الهيمنة

يرتبط تطور المجتمع الإنساني، تاريخيا، بصراعات لا تتوقف. تحقق الأمم التقدم التقني والتكنولوجي والاجتماعي في ظل تنافس دائم على السلطة وعلى الموارد. تروم الهيمنة الإنسانية إبعاد المخاطر المُهددة للبقاء، كما تهدف في السياق نفسه إلى إشباع الحاجات وإرضاء الرغبات، وذلك ما يقف وراء الحروب بأشكالها وكل آلياتها واستراتيجياتها.

لم تعد الحرب تقتصر عل العنف المادي العسكري، كما كانت دائما ومنذ صراعات الإنسان البدائي على الغذاء وعلى النار؛ بل أصبحت الحرب تستعمِلُ وتُوظِّف كل شيء ممكن لتحقيق السيادة والهيمنة: من الثقافة في مظهريها المادي واللامادي، حيث كانت الأساطير وحكاياتها الخارقة حول صراعات الآلهة وأنصافها، تهيء نفسيا وتغزو المخيلات تمهيدا للحرب ومواكبة لها، حتى الديمقراطية التي يتخذها الغرب منذ عصر الأنوار والحروب الصليبية ذريعة لغزو ولاستعمار ولاستعباد الغير المختلف عنه، وأخيرا الذكاء الاصطناعي باعتباره قمة تقدم التكنولوجيات الدقيقة اليوم، كماردٍ يُدبِّرُ ويحسب ويتوقع وينفِّذ ما لم يحلم الإنسان بإنجازه في وقت قياسي إلا في الأساطير وفي الأحلام وفي أفلام الخيال العلمي.

لكن، وقبل تحليل هذا الترابط العضوي اليوم بين الحرب والثقافة والديمقراطية والذكاء الاصطناعي، لنلقي نظرة على تاريخية هذا التشابك المُعقد والفاعل والخطير، الذي مكّن مهندسي ومقرري الحرب من توظيفٍ شامل لما يمكنه التأثير على المادي وغير المادي، البدني والنفسي والعقلي والمعرفي بل والروحي أيضا في الإنسان.

2ـ الصراع محرك التطور

يؤكد العديد من الفلاسفة والمؤرخين من ثوسيديديس، (ق 5 قم)، في كتاباته عن الحرب البولينيسية، إلى نعوم شومسكي، (ق 21)، في نقده للهيمنة الليبرالية، مرورا بكثيرين منهم ابن خلدون، (ق 14)، في دراسته لصراعات الدول ولصعودها وسقوطها، ومرورا كذلك بالمفكر والروائي الرواندي أليكسيس غاكامي، (ق 20)، الذي تناول التاريخ والثقافة الأفريقية وآثار الاستعمار عليهما، ناهيك عن ماركس ونيتشه، (ق 19) إلخ، يؤكد كل هؤلاء على أن الصراع محرك رئيسي للتطور الإنساني. ويقدم الفيلسوف البريطاني ديفيد هيوم، في كتابه “التاريخ الطبيعي للدين”، الخلاصات نفسها، حيث يعتبر الصراع الديني والثقافي جزءا لا يتجزأ من تطور الحضارة الإنسانية، وهو ما سيعود إليه المفكر الأمريكي المثير للجدل صاموئيل ب. هنتنغتون، للتأكيد على أن الصراعات الاستراتيجية الكبرى بين الدول، خاصة بعد الحرب الباردة التي تلت الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين، إنما هي صراعات بين الهويات والثقافات أساسا.

قديمة هي صراعات الإنسان على الثروة والخيرات إذا. يؤكد ذلك صوتا وصورة فيلم “La guerre du feu” للمخرج الفرنسي Jean Jacques Annaud، كما يبين ذلك، أنثروبولوجيّا، الباحث الأكاديمي Maurice Blanchard في كتابه “مقدمة إلى الأنثروبولوجيا الثقافية”، حيث يقارب كيف يؤدي التنافس بين القبائل والمجتمعات إلى تطوير التكنولوجيات والتقاليد الثقافية. قد تُحسَمُ الصراعات دون إراقة دماء؛ لكن غالبا ما كانت الحرب، كأعلى أشكال العنف وأشملها، هي أداة الحسم فما دور الحرب إذا في تكريس هيمنة الأقوى؟

3ـ من القوة العسكرية إلى القوة الناعمة

كانت الحروب في الغالب الأعم من تاريخ البشرية تستخدم القوة العسكرية كوسيلة حاسمة في تتويج أقوى الكيانات السياسية على فضاء أمنها القومي. وقد أوضح المفكر Carl Von Clausewitz في كتابه On war، وهو من أبرز المفكرين الذين ساهموا في فهم دور الحرب في تكريس الهيمنة الدّولية، أوضح كيف تستخدم الدول القوة العسكرية كوسيلة لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية. انضافت إلى القوة العسكرية منذ القديم أيضا قوة ناعمة، Soft power، تمثلت في الشائعات والدسائس والاغتيالات بواسطة التجسس والابتزاز والرشوة.

لا تتخذ الحرب شكل صراعات عسكرية فقط إذا، بل قد تتخذ شكل صراعات اقتصادية وثقافية وسياسية وتجارية ومالية، تلجأ بواسطتها الدول القوية خاصة وكل الدول على قدر قوتها، إلى ليّ ذراع وابتزاز الخصم، باستعمال ضغوط متعددة أو بتوظيف تضليل إعلامي ودعائي يهدد أمن الخصم واستقراره، بهدف تحقيق الهيمنة والسيطرة وإخضاع الخصم بالتالي.

تؤكد أفكار Clausewitz أن الدول القوية تسعى إلى استخدام القوة بأنواعها، ومنها أساسا العسكرية طبعا، كوسيلة لترسيخ سيطرتها على المناطق الاستراتيجية في ارتباط عضوي بمصادر الموارد الاستراتيجية من منظورها للأمن القومي الموسّع، الذي قد يتحدد؛ بل غالبا ما يتم تحديده، خارج الجغرافيا السياسية بالمعنى الضيق، لتعزيز مكانتها في النظام الدولي.

ينظر أمثال الفيلسوف البريطاني توماس هوبز والمفكر الأمريكي نوام تشومسكي إلى الحروب باعتبارها نتيجة طبيعية للصراع الدائم بين الدول على السلطة وعلى الموارد. تفسر هذه النظرية كيفية استخدام القادة السياسيين والعسكريين للحروب كأداة لتعزيز نفوذهم ولتحقيق أهدافهم الجيوسياسية الاستراتيجية على المديين المتوسط والبعيد.

4ـ في القرنين العشرون والحادي والعشرين

شهدت استراتيجيات الحرب في القرنين العشرين والحادي والعشرين قمة التطورات مع فورة تسارع التقدم التكنولوجي، ومع انتشار استعماله في كل مظاهر الحياة الإنسانية، ومنها التنافس والحرب الشاملة. تطورات كبيرة هي تلك التي عرفتها الإنسانية. ترتكز هذه التطورات على استخدام الحرب كأداة لخدمة مصالح القِوى الكُبرى، وتشكيل النظام الدولي وفقا لأجندتها ولمصالحها الاستراتيجية. تواطؤ مدمر هذا الذي يجمع الحرب كقيادة، والثقافة والديمقراطية والذكاء الاصطناعي كأدوات وكآليات، يستخدمها من أجل فعالية شاملة ودمار منهجي وبنيوي لبلوغ أهداف القوي وغاياته.

التواطؤ المُدمر

تطورت الحرب بالفعل لتضمّ الثقافة والديمقراطية والذكاء الاصطناعي ضمن أدواتها لخدمة استراتيجيات تحقيق أهدافها القريبة والبعيدة، المعلنة والخفية. نحاول في هذه المقالة وبعجالة كبيرة، توضيح تشابك هذه العناصر تحت القيادة الماكرة والخطيرة للحرب.

5ـ الثقافة كأداة للحرب

يتجلى حضور الثقافة في الحرب بأشكال متعددة ومتنوعة؛ منها، على سبيل المثال لا الحصر:

ـ الدعاية والحرب النفسية:

تتم الاستفادة من الثقافة للتلاعب بتصورات وبمعتقدات وبسلوكيات الأعداء والسكان المحليين. تستخدم الدعاية الرموز الثقافية والسرد والقيم والعادات والمعتقدات ومصادرها باللغات المحلية، لتعزيز الاختراق النفسي، ولدعم الجهود الحربية وبتحطيم معنويات الخصوم وتشكيكهم في يقينياتهم.

ـ الدبلوماسية الثقافية:

تستخدم الدول التبادلات الثقافية والفعاليات الفنية والثقافية، وهي من أشكال مبادرات القوة الناعمة، للتأثير على شعوب أخرى بتحبيب ثقافات الأقوياء والقبول ببناء تحالفات غير متوازنة. يمكن رؤية ذلك في الجهود المبذولة لتصوير صورة وطنية إيجابية أو للنيل من الشرعية الثقافية للخصوم في الصراعات الباردة والعسكرية الغربية مع الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران، وهو كذلك ما توظفه بكثافة إسرائيل في الشرق الأوسط ضد الفلسطينيين منذ عقود.

ـ قوة السينما

تستأثر السينما منذ انتشار دورها ودخولها عالم النسيج الاجتماعي، كتقليد مدني وكممارسة اجتماعية وثقافية، مكانة قوية التأثير والاشعاع ضمن أدوات الحرب وإن بشكل مستتر. فعلى الرغم من صعوبة إطلاق اسم “الفيلم الوطني” على كل الأفلام المادحة والمُروجة والمُبرزة لبطولاتٍ ولتاريخٍ ولشخصياتٍ فذة من بلدان معينة، باعتبارها أعمال فنية تندرج في خانة قيم كبرى كالكونية والإبداع والغيرية والشجاعة والبطولة؛ فإن التجارب السينمائية القوية، الصهيونية والأمريكية والسوفياتية والصينية والفرنسية على سبيل المثال، تقنعنا بأنه كان ولا يزال للسينما دور كبير في دبلوماسية الحرب الباردة، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية في القرن العشرين. من ذلك أفلام الدعاية الني أنتجتها الدولة النازية، والموجة الواسعة والذكية والمكلفة للأفلام المدافعة عن الصهيونية ببث عقدة الإحساس بالذنب في العالم الغربي خاصة، وأفلام البطولات الخارقة للعنصر الأمريكي في كل مناحي الحياة، مقابل شيطنة الروسي والصيني والمسلم والعربي ووضع المُلوَّنِين في الدرجة الثانية مهما كانت عبقرياتهم إلخ. انحسر مد انتشار القاعات السينمائية رغم النهضة الصينية والسعودية والمحاولات المغربية الخجولة إلى حد الآن.

ـ مكر التلفزيون

لحق التلفزيون بالسينما في عالم الفرجة والإعلام كمارد هادر تسرب بدهاء إلى البيوت وسكن صالوناتها؛ بل ودخل غرف النوم. سرعان ما هدد التلفزيون باحتلال مواقع السينما؛ لكن السينما حافظت على نبلها وسموها رغم انغماسها فيما هو إيديولوجي ودعائي وشوفيني، فالأمر عادي مادام فضاء السينمائيين يضم غير عباقرة السينما المفكرين.

جعلت طبيعة التلفزيون المؤسسية والمتوقفة على تمويل ضخم يتنامى، وعلى خدمة عمومية، حتى لو كانت القناة خاصة، بوقا لما هو رسمي ووطني وبالتالي إيديولوجي وقطري، تابع للحكم ولاستراتيجياته ولغاياته ولسياساته. لم تمنع الديمقراطية من تطويع “استقلالية” التلفزيون بشكل أو بآخر، ليظل أداة حرب تبرر وتطوع وتعيد الصياغة بدقة مدلولات الأفعال والأسماء والنعوت وما تعنيه للعامة خاصة؛ لأن دخول التلفزيون للبيوت وتنقل كاميراته إلى كل مواقع الأحداث جعلا منه “مؤثرا خطير الفعالية” يوجه حتى أكبر الديمقراطيات، ويصنع أساطيرها وأصنامها الجدد، يمهد للحرب ويبررها، بتضليل الرأي العام وبتطويعه، وبإعادة صياغة الواقع والجمل المعبرة عنه، مسترشدا بتوجهات الرأي العام، وبنتائج دراسات تكميم الميولات بواسطة الذكاء الاصطناعي في شبكات التواصل الاجتماعي، وفي استطلاعات الرأي، وحسب مؤشرات مستوى المعيشة ودرجات الاحتقان أو الرخاء المرتبطة به اجتماعيا.

يمكن القول بأن دور السينما في الحروب تراجع أو لنقل إن ليس بالآنية التي عليها دور التلفزيون، فما الميدان الذي ينمو كمؤثر فعال في هذا المستوى من توظيف الثقافة في الحرب؟

ـ الألعاب الإلكترونية Gaming

بلايين الدولارات وآلاف المهندسين وملايين المستهلكين والمهووسين والمدمنين، وبطولة للعالم ومسابقات بمئات الآلاف من الدولارات وشباب متوقد الذكاء وسريع رد الفعل مبدع ومبتكر يمنح حقل الألعاب الإلكترونية مقاما يرتبط عضويا بالذكاء الاصطناعي وبالفرجة وبالدراما وبالحكاية وبالتنافس، دون عرق، وبتفريغ العنف: ذلك هو ميدان الألعاب الإلكترونية، الذي أصبح سوقا مالية وتكنولوجية واقتصادية وإيديولوجية وتربوية؛ وبالتالي ثقافية قيمية، يحركها تنافس مُضمر، بدأ يطفو إلى السطح بسبب ما يترتب عليه من أرباح ونقل للتكنولوجيا وعواقب ثقافية ونفسية وتربوية، ألحقته بمجمع آليات الحرب الموازية الدائرة رحاها في العمق حول إعادة صياغة مواقع الدول والثقافات وقطبيتها، في رقعة عالم القرن الحادي والعشرين، الذي لم يخلف وعده بتأجيج الصراعات ونوعيتها في عالم يتحول بعمق غير مسبوق.

إذا كان دور السينما في دعم الحرب يتطلب وقتا وتقاليد للفرجة ولا ينم كل يوم وفي أي مكان، على الرغم من انتشار ترويج الأفلام السينمائية على مختلف حوامل وتطبيقات وبرمجيات الإنترنيت.. وإذا كان دور التلفزيون يومي بل وعلى مدار الساعة بسبب وجوده في كل البيوت والإدارات والمؤسسات، لكن الأهم هو وجود فرق النقل الآني والمباشر توجد في كل بقاع الحدث والعالم، فإن دور الألعاب الإلكترونية اليوم أكثر فعالية بل وأخطر؛ لأنه أولا يعزل ممارسه بعيدا عن نسيج الحياة الأسرية والاجتماعية، ولأنه يتوجه للفئات الأكثر فقرا في امتلاك ثقافة النقد والتحليل، ثم أخيرا لأن دورها لا يخضع لرقابة صارمة حول نشر ثقافة العنف والتمييز والكسل الفكري والقطرية الضيقة والانطواء على الذات ونشر العولمة وثقافاتها العابرة، وهو ما جعل ميدان الألعاب الإلكترونية محط انتباه عدد من الدول لتأسيس منصات وطنية قلبا وقالبا، ومحط صراع تكنولوجي وتجاري واقتصادي ومالي بين أقطاب إنتاجه ومنهم أساسا الولايات المتحدة الأمريكية واليابان والصين وبعض الدول الأوروبية، تحاول الإمارات العربية المتحدة والمغرب دخول هذا النادي، كل حسب قدراته ومنظوره واستراتيجياته للأمن الثقافي إن وجدت.

6ـ الديمقراطية كأداة للحرب

الديمقراطية مبدأ وقيمة عليا، يختلف تطبيقها من بلد إلى آخر رغم تعريفها الفضفاض باعتبارها حكم الشعب لنفسه بنفسه عن طريق الانتخابات “الحرة” و”النزيهة”. تستعمل الديمقراطية في الحرب بأشكال؛ أبرزها:

ـ تبرير الحرب: غالبا ما تبرر الدول القوية الأعمال العسكرية بما هو منسجم مع تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، أو الدفاع عن التهديدات الممكنة والمنتظرة للقيم الديمقراطية التي تتبناها هذه الدول وتدعيها كونية وملزمة. يعلمنا التاريخ المعاصر بأن هذه المؤسسات الدولية تسيطر عليها الدول القوية بقوانين تنظيمها التي وضعتها هي ذاتها فيما بعد الحرب العالمية الثانية. يمكن أن يوحد دعم الديمقراطية عبر العالم الشرعية الدولية؛ لكن فقط عند الكيل بمكيال واحد في مواجهة كل الأحداث عبر بقاع العالم. للأسف، نعيش ونرى اليوم كما عشنا بالأمس، الكيل بمكيالين بل ومكاييل من لدن القوى الساهرة مبدئيا على السلم والديمقراطية، في مناطق متعددة من العالم سبق وذكرناها.

ـ بناء التحالفات

قد تشكل الديمقراطيات تحالفات استنادا إلى قيم ديمقراطية مشتركة، تعزز القدرات العسكرية الرادعة والتأثير السياسي الفعال لحماية الديمقراطية ما تتضمنه من حريات واحترام لحقوق الإنسان إلخ. فحلف شمال الأطلسي (NATO) هو تحالف عسكري يعلن غالبا أن أهدافه الدفاع عن مبادئ الديمقراطية؛ لكن النظر إلى واقع هذا الحلف وما يقوم عليه وبه يطرح أسئلة مقلقة بالنسبة للسلم ولاحترام الديمقراطية ذاتها. في سياق كهذا تكون الديمقراطية قيمة جوفاء، إذ تصبح مجرد مبرر لحرب مصالح استراتيجية تطوع المبدأ لتبرير الفعل.

7ـ الذكاء الاصطناعي كأداة للحرب

تتعدد مجالات وأهداف وأشكال وصيغ استعمال الذكاء الاصطناعي في الحرب؛ ومنها بعجالة كبيرة:

ـ الحرب السيبرانية

يتم استخدام الذكاء الاصطناعي في العمليات السيبرانية، بما في ذلك القرصنة والمراقبة وإعاقة الاتصالات والاشتغال السليم للبنيات التحتية للأعداء. يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي أيضا للدفاع ضد التهديدات السيبرانية. وذلك بتثبيت نظم للحماية والدفاع بسد الثغرات في الأنساق التشغيلية وتحصينها من الاختراق.

ـ أنظمة ذاتية التشغيل

يمكّن الذكاء الاصطناعي من تطوير أنظمة أسلحةٍ مستقلة، مثل الطائرات بدون طيار والمركبات غير المأهولة، التي يمكن أن تعمل بشكل مستقل أو شبه مستقل على ساحة المعركة يطرح هذا التقدم التكنولوجي في الحرب مشاكل أخلاقية وقانونية وقيمية، بل ويطرح، ضمن قضايا الذكاء الاصطناعي، إشكاليات سيطرة الآلة على القرار وبنائها أفكار ووعي قد يجعلها ذات يوم تتمرد وتدمر حياة الإنسان. لعل لنا فيما حدث يوم الجمعة 19 يوليوز، من هلع وخسائر ومخاوف وأعطاب في المطارات والسكك الحديدية وتلفزيونات فضائية وإنترنيت وغيرها ومستشفيات إلخ نتيجة عطب محدود ولمدة بضع ساعات في برنامج تحديث نفذته شركة لحساب مايكروسوفت وهي أكبر مُشغل للإنترنيت في العالم، عبرةٌ لما يمكن أن يحدث مع انتشار شامل زاحف لاستخدام لذكاء الاصطناعي عالميا في المستقبل القريب.

ـ دعم القرارات

تساعد تقنيات الذكاء الاصطناعي في عمليات اتخاذ القرار، بما في ذلك التحليل التنبؤي للتخطيط العسكري وتحسين اللوجستيات التشغيلية وتقييم التهديدات. يصل الأمر مع تسارع تقدم برمجيات الذكاء الاصطناعي، إلى مستوى اقتراح اختيار بين قرارات؛ بل واتخاذ إحداها أساسا وتنفيذه في غياب وعي حقيقي بمخاطر قيمية وقانونية وإنسانية لا يمكن للآلة ولو كانت مولدة للأفكار انطلاقا من تحليل بيانات ببلايين المعطيات في بسرعة الضوء، أن تعيها وتعتبرها إنسانيا.

خاتمة

يتجه تطور الصراعات العالمية اليوم وتوظيفه للذكاء الاصطناعي وللثقافة والديمقراطية وكذا تجديداتها في وسائل خوضها وآليات تنويعها نحو الدمج والشمولية، يدمج النزاع هذه الأدوات بشكل متزايد في استراتيجيات هجينة، تجمع بين القدرات العسكرية التقليدية بكل أنواعها والأرضي والبحري والجوي، والتأثير الثقافي بما فيه الإعلام والأدب والسمعي البصري وصناعة المحتوى والألعاب الإلكترونية وبرامج التعليم، والشرعية الديمقراطية وقيمها ومبادئها وكل فضاءات مناقشتها وترويجها، وتكنولوجيات الذكاء الاصطناعي ومجالات استعمالها وتوظيفها، وحشوها بالإيحاءات والتوجيهات والأخبار المُضلِّلة والمُطوَّعة وبالمعلومات والبيانات، والاتجار بها واستغلالها لأغراض متعددة أمنية وتجارية واستخباراتية إلخ.

يطرح تطور الصراعات العالمية وتوظيفه للذكاء الاصطناعي وللثقافة والديمقراطية كذلك، التحديات الأخلاقية والقانونية، حيث يثير استخدام الذكاء الاصطناعي في الحرب مخاوف وأسئلة وإشكاليات أخلاقية بشأن اتخاذ القرارات المستقلة وسلامة المدنيين. وقد رأى العالم ما يجري في الحرب على غزة خاصة، جزئيا بسبب استعمالٍ غير مُقنَّن ولا مُراقب أخلاقيا وقانونيا للذكاء الاصطناعي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يعمق التلاعب الثقافي التضليل وغير الأخلاقي واستغلاله في الحرب، من الشروخ والانفصالات والتمزقات والتوترات الاجتماعية، وهو ما قد تكون له عواقب طويلة الأمد على وحدة واستقرار المجتمعات والدول، وبالتالي على العلاقات الدولية وما ينبغي أن تكون عليه من سلمية ودبلوماسية في تسوية النزاعات وحل الخلافات.

وباختصار، نقول بأن الثقافة والديمقراطية والذكاء الاصطناعي ليست مجرد أدوات ملحقة للاستراتيجيات العسكرية المغذية لنزاعات الهيمنة والسيادة في العالم؛ ولكنها أصبحت اليوم عناصر أساسية في الحرب المعاصرة، تشكل السرود والتبريرات والقدرات التكنولوجية فيها سبلا قوية وفعالة لتحقيق الأهداف الجيوسياسية والاستراتيجية. من هذا المنطلق، يظل العمل الذكي والمدروس والشامل في بناء أمن ثقافي شامل، إلى جانب الأمن الاقتصادي والطاقي والأمني… أساسا لكل سياسات عمومية بعيدة النظر استراتيجيا وجيو-سياسيا.

Exit mobile version