هل تتسبب حرب أوكرانيا في انهيار منظومة الردع التقليدي لدى الدول النووية؟

تتصور دول العالم، منذ خمسينيات القرن العشرين وطوال سنوات الحرب الباردة وحتى الآن، أن امتلاك السلاح النووي هو أفضل وسيلة لردع الأعداء والخصوم. وعلى هذا الأساس، نرى القوى النووية الكبرى، وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين، والقوى النووية الأصغر، سواء المعلنة أو المعروفة على نطاق واسع دون إعلان، تستثمر بكثافة شديدة في تحديث ترساناتها النووية لضمان قدرتها على الردع.

لكن المحللين الأمريكيين ستيفن سيمبالا، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بن ستيت برانديواين ومؤلف العديد من الكتب والمقالات في مجالات الأمن الدولي وسياسات الدفاع، ولورانس كورب، الزميل الكبير في معهد “التقدم الأمريكي” والأستاذ المساعد في جامعة جورج تاون، أوردا، في تحليل نشره موقع مجلة ناشونال إنتريست الأمريكية، أن افتراض امتلاك ترسانة كبيرة من الأسلحة النووية ضروري وكاف لتجنب فرض حروب كبرى على الدولة يواجه الآن تحديات كبيرة.

وقال المحللان سيمبالا وكورب أن ما نراه الآن هو تزايد رغبة الدول والتنظيمات المسلحة غير الرسمية في خوض حروب كبيرة تقليدية وغير تقليدية، حتى لو كانت تستهدف مصالح دول نووية؛ فقد أظهرت التهديدات الأخيرة لمصالح الدول الكبرى وأمنها أنه في غياب القدرة على الردع أو تحقيق النصر في الحروب التقليدية أو التصدي للهجمات غير التقليدية ضد المصالح الحيوية تصبح الترسانة النووية لأية دولة، من ناحية الفاعلية، مجرد قصة نجاح ناقصة تغطي نقص القدرات العسكرية الحقيقية للدولة.

ولكن هذه الرؤية التي قدمها المحللان سيمبالا وكورب بشأن عدم كفاية القدرات النووية على تحقيق الردع في الوقت الراهن تصطدم برؤية تيار آخر يرى أن الأسلحة النووية تمثل رادعا ضد أي هجوم نووي ضدها أو ضد مصالحها الحيوية، كما تحميها من الابتزاز النووي من جانب دولة نووية سواء لها أو لحلفائها.

ورد سيمبالا وكروب على هذه الحجة بالقول إن احتمال قيام دولة ما بشن هجوم نووي مفاجئ ضد دولة أخرى دون مقدمات هو السيناريو الأقل احتمالا، في حين أن السيناريو الأقرب هو تحول حرب تقليدية إلى حرب نووية من خلال لجوء أحد طرفي هذه الحرب إلى البدء باستخدام السلاح النووي في أي مرحلة من مراحل هذه الحرب.

ليس هذا فحسب، بل إن الدولة الأقرب إلى تحقيق النصر في الحرب التقليدية سيكون احتمال لجوئها إلى البدء باستخدام السلاح النووي أقل من الدولة الأقرب للهزيمة.

وسيكون قرار البدء غالبا باستخدام السلاح النووي، هو لإنقاذ موقف خاسر في حرب تقليدية. في المقابل، لا يمكن استبعاد رد الدولة الأخرى على الهجوم النووي بهجوم مماثل؛ وهو ما يعني أن الدولة التي بدأت باستخدام السلاح النووي فتحت عن عمد الباب أمام تصعيد نووي غير محسوب العواقب.

ويمكن القول إن الحرب الروسية الأوكرانية تمثل نموذجا على فشل نظرية الردع التقليدية الحالية، حيث يتصاعد القتال من ناحية الخسائر الاقتصادية والبشرية ويفتح الباب أمام التحول إلى حرب نووية. وقد أدى الدعم الكبير الذي يقدمه حلف شمال الأطلسي (ناتو) لأوكرانيا وصلابة مقاومتها إلى استمرارها في التصدي للغزو الروسي. في الوقت نفسه فإن براعة أجهزة مخابراتها وكفاءة قادتها التكتييين في نشر القوات حرم روسيا من الاقتراب من تحقيق النصر بقدراتها العسكرية التي تفوق أوكرانيا كثيرا من حيث العدد والعدة.

ودفع عجز روسيا عن تحقيق النصر بالوسائل التقليدية مسؤوليها، بمن فيهم الرئيس فلاديمير بوتين، إلى التلويح باستخدام السلاح النووي. وكما فشل الردع التقليدي لحلف الناتو في منع روسيا من غزو أوكرانيا في فبراير 2022، فشلت روسيا في قهر المقاومة الأوكرانية التي تستطيع مهاجمة الأراضي الروسية بالطائرات المسيرة والصواريخ بعيدة المدى التي حصلت عليها من الولايات المتحدة وحلفائها في حلف الناتو. والحقيقة أن هذا الجمود في الموقف العسكري سيفتح الباب إن عاجلا أو آجلا أمام الوصول إلى اتفاق سلام عبر المفاوضات، مهما كان رفض المتشددين على الجانبين لمثل هذا السيناريو.

وهناك نموذج آخر على عجز الترسانة النووية عن تحقيق الردع ما لم يكن إلى جانبها قدرات عسكرية تقليدية قادرة على الانتصار في الحرب، وهو نموذج حرب غزة. فإسرائيل النووية لم تستطع ردع حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى من مهاجمتها في يوم 7 أكتوبر الماضي بسبب فشل قدرات الردع التقليدية لدى إسرائيل؛ بما في ذلك أجهزة مخابراتها الاستراتيجية. كما أن إيران تطمح في الانضمام إلى نادي الدول النووية، في حين لا يبدو أن الولايات المتحدة وإسرائيل قادرتان على ردع إيران عن مواصلة برنامجها النووية باستعانتهما بتهديد تقليدي قوي.

في الوقت نفسه فإن امتلاك إيران لسلاح نووي يمكن أن يدفع دولا أخرى في الشرق الأوسط، مثل المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا، إلى السعي نحو امتلاك سلاح نووي لضمان قدرتها على تحقيق توازن الردع. والحقيقة أن الولايات المتحدة لا تستطيع شن حربا شاملة ضد إيران كما فعلت عام 2003 ضد العراق ورئيسها الراحل صدام حسين، كما لا يبدو أنها تستطيع تدبير انقلاب على نظام الحكم في طهران. ويتبقى لها العقوبات الاقتصادية والهجمات السيبرانية كوسائل للتعامل مع آيات الله في طهران.

وهناك دليل آخر على تآكل قدرات الدول الغربية على الردع، وهو ما تفعله جماعة الحوثيين في اليمن التي قررت وقف حركة الملاحة في مضيق باب المندب ردا على الحرب الإسرائيلية ضد غزة وحولت جزءا كبيرا من سلاسل الإمداد العالمية إلى رهينة في قبضتها مع أنها لا تمتلك قدرات عسكرية يعتد بها. وقد حاولت الولايات المتحدة وبريطانيا التصدي للحوثيين بشن ضربات جوية ضد قواعدهم في اليمن؛ لكن الموقف مازال محرجا للمجتمع الدولي، بما في ذلك دوله النووية التي تبدو غير قادرة على التصدي للتهديد الحوثي لحركة التجارة العالمية.

في المقابل، يتحدث البعض عن كوريا الشمالية التي نجحت في تطوير ترسانة نووية توفر لها الحماية في مواجهة جارتها كوريا الجنوبية التي تحظى بدعم عسكري هائل من الولايات المتحدة وحلفائها الآخرين بما يضمن لها التفوق في أي حرب تقليدية من الشمال. ولكن هذا التهديد النووي الكوري الشمالي يمكن أن يحفز كل من كوريا الجنوبية واليابان وغيرهما من القوة الإقليمية التي تشعر بتهديد مباشر أو غير مباشر على امتلاك السلاح النووي. كما أن السلاح النووي في رأي البعض هو الذي ضمن لكوريا الشمالية البقاء كدولة مارقة خارجة على القانون الدولي، في حين تمت الإطاحة بصدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا لأنهما لم يمتلكا الرادع النووي.

ولعل السيناريو الأشد صعوبة لاختبارات قدرات الولايات المتحدة وحلفائها على الردع والدفاع يتمثل في نشوب صراعين كبيرين في وقت واحد الأول في آسيا والآخر في أوروبا؛ لأنه منذ نهاية الحرب الباردة تخلت الولايات المتحدة وحلفاؤها بنسبة كبيرة عن الاستعداد لمثل هذا السيناريو، في حين تتزايد احتمالات حدوثه في المستقبل مع تنامي الخطر الروسي في أوروبا والصيني في آسيا وتعاون الدولتين المتنامي وبخاصة في المجال العسكري.

أخيرا، سجل المحللان سيمبالا وكورب أن الردع والدفاع سيحتاجان إلى صناع سياسة لديهم رؤية وقادة عسكريين لديهم الخيال والجرأة وروابط قوية بين الشركاء المتحالفين عبر مختلف مجالات الصراع في البر والبحر والجو والفضاء والأمن السيبراني؛ ولكن للأسف الشديد فإن فشل الردع والدفاع التقليديين في مواجهة سيناريو خوض حربين كبيرتين في وقت واحد، قد يفتح الباب أمام التصعيد النووي بعواقبه التي لا يمكن التنبؤ بها.

تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News
زر الذهاب إلى الأعلى