نشر صواريخ أمريكية بعيدة المدى بألمانيا يعيد شبح الحرب الباردة إلى الواجهة

على الرغم من أن الخطوة الأكثر حسما في قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في واشنطن تمت بدون ضجيج، فإنها أحدثت ضجة كبيرة على صعيد السياسة الأمنية؛ وتتمثل هذه الخطوة في معاودة الولايات المتحدة، اعتبارا من عام 2026، نشر أنظمة أسلحة يصل مداها إلى الأراضي الروسية. وتتضمن هذه الأنظمة صواريخ كروز طراز توماهوك التي يمكن تزويدها نوويا من الناحية التقنية، وصواريخ دفاع جوي من نوع إس إم-6، بالإضافة إلى أسلحة أسرع من الصوت تم تطويرها حديثا والمنتظر أن يكون مداها أبعد من الأنظمة الأرضية المنصوبة حاليا.

وعلى هامش القمة، أعلنت الولايات المتحدة وألمانيا، في ثلاث جمل فقط، أن هذه “القدرات المتقدمة” ستظهر التزام الولايات المتحدة تجاه “الناتو” ومساهمتها في الردع الأوروبي المشترك.

يأتي هذا القرار بعد حوالي خمس سنوات من إنهاء معاهدة الحد من الأسلحة النووية المتوسطة المدى البرية، بعد أن فسختها الولايات المتحدة بدعم من شركائها في “الناتو” معتبرة أن روسيا انتهكت المعاهدة بنشر نظام الصواريخ متوسطة المدى إس إس سي-8.

وبدورها، اتهمت روسيا “الناتو” بالتصعيد؛ فقد نقلت وكالة أنباء تاس الروسية الرسمية عن سيرجي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، القول: “سنعمل على إعداد رد عسكري بالدرجة الأولى على ذلك، دون توتر عصبي أو انفعال”. ومن المنتظر في الوقت الحالي أن تقوم موسكو بمراجعة العقيدة النووية الروسية. أما الصين، فردت على انتقادات “الناتو” لدورها في حرب أوكرانيا بالقول إن تصريحات “الناتو” مليئة بخطاب الحرب والافتراء والاستفزازات.

في الذكرى الـ75 لتأسيس الناتو، عادت الحرب الباردة، حيث يعمل الحلف الأطلسي على تعزيز الأمن العسكري لأوروبا؛ لأن القيادة الروسية، بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، لا تريد إنهاء الحرب ضد أوكرانيا، وأنهت إجراءات متبادلة للرقابة على التسلح.

وعلاوة على ذلك، تتزايد الدلائل التي تشير إلى تشكيل تكتلين جديدين حيث تتنافس الولايات المتحدة وأوروبا من جهة، مع دول مثل الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران من جهة أخرى، على النفوذ في العالم.

ويحاول “الناتو” التصدي للانطباع القائل إن حرب أوكرانيا أنهكته وإن الخلافات الداخلية أصابته بالضعف. وخلال القمة في واشنطن، كان هناك خلف الكواليس قدر كبير من الاستياء حيال سفر فيكتور أوربان، رئيس الوزراء المجري، بدون تنسيق مع الشركاء إلى موسكو وبكين في جولة أطلق عليها “مهمة سلام”. ومع ذلك، فإن الحلف خارج الكواليس يصف هذه الجولة، التي استغلتها الدعاية الروسية بمهارة، بأنها شأن مجري خاص وغير ذي صلة.

وتسير الأمور بشكل مشابه فيما يتعلق بالنقاشات الدائرة حول مدى أهلية الرئيس الأمريكي جو بايدن، البالغ من العمر 81 عاما، لقيادة الولايات المتحدة لفترة رئاسية ثانية، حيث يتجنب القادة الآخرون في الحلف التعليق على هذه القضية التي تعد واحدا من أكثر الموضوعات السياسية نقاشا في العالم، ناهيك عن التعبير عن آرائهم في هذا الشأن.

وظهر المستشار الألماني أولاف شولتس في واشنطن بثقة كبيرة، وأكد أن ألمانيا تعتزم الوفاء بمسؤولياتها كأكبر اقتصاد في أوروبا حتى في الأوقات الصعبة.

وقال شولتس: “ألمانيا هي أكبر دولة في أوروبا ضمن حلف الناتو. من هذا المنطلق، تنشأ مسؤولية خاصة علينا. ويمكنني أن أقول هنا على نحو شديد الوضوح إننا سنتحمل هذه المسؤولية، وأنا كذلك”. نادرا ما تُسمع مثل هذه النغمات الواضحة من شخص يفضل تقديم ألمانيا على أنها “قوة متوسطة”.

ومع ذلك، فإن قرار معاودة نشر أسلحة أمريكية على الأراضي الألمانية يمكنها أن تصل إلى روسيا لا يخلو من حساسية بالنسبة له، إذ إن الخوف من أن تصبح ألمانيا هدفا للأسلحة الروسية ينتشر على نحو واسع في ألمانيا. وجدير بالذكر أن شولتس نفسه كان احتج في الثمانينيات عندما كان سياسيا شابا في الحزب الاشتراكي على قرار مزدوج لحلف شمال الأطلسي كان يتضمن، ضمن أمور أخرى، نشر صواريخ متوسطة المدى من نوع بيرشينج2 والتي تم سحبها مرة أخرى بعد نهاية الحرب الباردة حتى عام 1991.

وردا على سؤال عما إذا كان يتوقع أن تكون هناك معارضة كبيرة ضد عودة مثل هذه الأسلحة ذات المدى البعيد إلى ألمانيا، بما في ذلك من داخل حزبه الاشتراكي الديمقراطي، كان شولتس قال في واشنطن: “تم إعداد هذا القرار منذ وقت طويل، ولن يكون هذا مفاجأة حقيقية بالنسبة لكل من يشتغلون بسياسات الأمن والسلام”، لافتا إلى أن قرار نشر الصواريخ الأمريكية في ألمانيا يتماشى تماما مع استراتيجية الأمن للحكومة الاتحادية الألمانية التي تمت مناقشتها علنا.

ويؤكد بايدن مرارا وتكرارا أن الولايات المتحدة تلتزم بشكل ثابت بواجباتها في التحالف العسكري، وستدافع عن كل شبر من أراضي “الناتو”.

وفي المقابل، كان ترامب ينتقد باستمرار ما يعتبره تدنيا في نفقات الدفاع من جانب أعضاء أوروبيين في الحلف، وهدد في بعض الأحيان بانسحاب الولايات المتحدة من “الناتو”.

وخلال حملته الانتخابية الحالية، قال ترامب إنه لن يضمن الحماية الأمريكية لدول “الناتو” التي لا تفي بالتزاماتها المالية، مشجعا روسيا على “فعل ما تريد” مع هذه الدول. ولا توحي تصريحات ترامب بأنه يعتزم تعزيز دور الولايات المتحدة في حلف “الناتو” أو في جهود الردع الأمني في أوروبا.

ومع ذلك، فمن الممكن أن يحقق ترامب شيئا ما من نشر أنظمة أسلحة بعيدة المدى في ألمانيا، إذ إن الرجل البالغ من العمر 78 عاما هو شخص يحب استعراض العضلات. وبالنسبة لـ”الناتو”، قد يكون عدم القدرة على التنبؤ بخطوات ترامب ميزة، حيث يمكن لهذا الأمر أن يردع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أيضا عن اتخاذ خطوات استفزازية أخرى؛ لأنه لا يمكنه التنبؤ بالكيفية التي سيرد بها ترامب.

وفي غضون ذلك، أوضح شولتس أنه، من وجهة نظره، لا يوجد خيار آخر سوى القرار الذي تم اتخاذه الآن، وقال: “نعلم أن هناك تسلحا هائلا في روسيا بأسلحة تهدد الأراضي الأوروبية”.

تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News
زر الذهاب إلى الأعلى