قال أشرف الطريبق، محلل سياسي، إن المواطنين الفرنسيين تنفسوا الصعداء بعد الاطلاع على الخريطة الجديدة التي أفرزتها الانتخابات التشريعية الأخيرة، فيما أدخلت الفاعلين السياسيين في دوامة من السيناريوهات والتحالفات المحتملة التي في غالب الظن لن تلتزم بما أعلن عنه في البرامج الانتخابية.
وعزا المحلل المغربي، في مقال توصلت به جريدة جريدة النهار الإلكترونية، بعنوان “سيناريوهات التحالفات السياسية في فرنسا بعد تجنب صعود اليمين المتطرف”، سبب دوامة السيناريوهات والتحالفات المحتملة إلى التباعد الكبير بين وعود والتزامات الكتل الثلاث الرئيسية: الجبهة الشعبية الجديدة، تحالف معا، وتجمع أقصى اليمين، لافتا إلى أن “الواقع الجديد الذي لم يفرز أغلبية مطلقة سيفرض على السياسيين والفاعلين الفرنسيين تغيير قواعد التحالفات بالخروج من الحزبية الضيقة والاصطفافات الكلاسيكية نحو الانتصار لقيم الجمهورية والاتفاق على مواثيق سياسية مفصلة مضبوطة تضمن إنجاح التحالفات المستقبلية”.
نص المقال:
شهدت فرنسا مؤخرا حالة من الترقب الشديد في انتظار نتائج الدور الثاني من الانتخابات التشريعية الفرنسية الاستثنائية، الذي نظم يوم الأحد الماضي سابع يوليوز 2024. وقد انتظر جل المتتبعين بفارغ الصبر نتيجة تجمع أقصى اليمين الفرنسي، التي كانت إما ستؤكد وتيرة تفوقه على التحالفات المنافسة أو ستفرمل إيقاعه المتزايد، خصوصا بعد انتخابات البرلمان الأوربي والدور الأول من الانتخابات التشريعية الفرنسية.
وبالرجوع إلى نتائج الدور الثاني سنجدها منسجمة ولم يطرأ عليها تغيير ملحوظ من حيث القواعد الانتخابية للتكتلات المتنافسة، إذ حافظ التجمع الوطني على الصدارة بأكثر من 8,7 ملايين صوت، أي 32,05 بالمائة من الأصوات المعبر عنها، وحصلت الجبهة الشعبية الجديدة على أكثر من 7 ملايين صوت، أي 25,68 بالمائة من الأصوات، في حين حصدت الأغلبية الرئاسية أكثر من 6 ملايين و314 ألف صوت، أي 23,15 بالمائة من الأصوات.
فمن حيث عدد الأصوات لم تتغير التوقعات، وتم الحفاظ على الترتيب نفسه الذي تمخض عنه الدور الأول، لكن المفاجأة جاءت من حيث عدد المقاعد، إذ حصلت الجبهة الشعبية الجديدة لوحدها على 146 مقعدا، تضاف إلى نتائج الدور الأول ومقاعد أحزاب أخرى، ليصبح مجموع مقاعدها في الجمعية العامة 182 مقعدا. بينما حققت الأغلبية الرئاسية المنخرطة في تحالف معا المفاجأة وحصلت على 148 مقعدا، بمعنى أنها حلت في المرتبة الأولى من حيث عدد المقاعد في الدور الثاني، تضاف إلى مقعدين في الدور الأول ومقاعد حلفاء آخرين لتصل إلى 168 مقعدا. في حين أن التجمع الوطني (أقصى اليمين) وحلفاءه حصلوا بالكاد على 143 مقعدا بين الدورين الأول والثاني، منزلقين إلى المرتبة الثالثة بعدما كانوا يمنون أنفسهم بانتصار كاسح وأغلبية مطلقة.
وإذا كان الفرنسيون تنفسوا الصعداء بعد الاطلاع على الخريطة الجديدة التي أفرزتها الانتخابات التشريعية الأخيرة فإن هذه النتائج أدخلت الفاعلين السياسيين في دوامة من السيناريوهات والتحالفات المحتملة، التي في غالب الظن لن تلتزم بما أعلن عنه في البرامج الانتخابية بسبب التباعد الكبير بين وعود والتزامات الكتل الثلاث الرئيسية: الجبهة الشعبية الجديدة، تحالف معا، وتجمع أقصى اليمين. ويمكن حصر التوقعات في السيناريوهات التالية:
أن تعقد الجبهة الشعبية الجديدة والأغلبية الرئاسية لماكرون تحالفا جديدا بغية استمرار التنسيق الانتخابي غير المعلن الذي تم في انتخابات الدور الثاني، وذلك بغية قطع الطريق على اليمين المتطرف. وسيتم تشكيل حكومة وحدة وطنية تتأسس على أغلبية مريحة وعلى أولويات الحفاظ على الاستقرار السياسي والاجتماعي لفرنسا. لكن هذا التحالف سيتطلب تقديم تنازلات كثيرة من الأطراف المتحالفة، إذ ينبغي على الجبهة الشعبية الجديدة تقديم مرشح متوافق عليه مقرب إلى دوائر الرئيس ماكرون، والتخلي عن بعض الالتزامات التي قدمتها في الجملة الانتخابية الأخيرة، في مقابل رضوخ تحالف معا وتجميده تنزيل بعض من مخططاته، كتجميد خطة التقاعد مؤقتا، والتراجع عن الزيادات الضريبية، واتخاذ مواقف أقوى تجاه الحرب الإسرائيلية على غزة. ويبقى هذا السيناريو هو الأقرب والكفيل بنزع فتيل أزمة سياسية محتملة لا تعكس نتائج الانتخابات التي زكت الجبهة الشعبية الجديدة ووضعتها في المقدمة.
هناك سيناريو آخر باختيار حكومة أقلية يقودها شخص تقنوقراطي متوافق عليه يقود الشأن الحكومي في حده الأدنى طيلة سنة كاملة، على أساس تنظيم انتخابات تشريعية جديدة من شأنها إفراز واقع سياسي آخر يمكن من الخروج من وضعية “البلوكاج” السياسي. ويبقى احتمال هذا السيناريو جد قوي في حالة عدم اتفاق الكتلتين الرئيسيتين على أرضية مشتركة للتحالف. ودائما يبقى هذا الحل ممكنا من أجل قطع الطريق على اليمين المتطرف الذي ينتشي وتتزايد شعبيته أمام تناحر الفرقاء السياسيين التقليديين.
السيناريو الثالث، وهو الأفضل بالنسبة للرئيس ماكرون، يقوم على تشكيل أغلبية يقودها تحالف معا الممثل للأغلبية الرئاسية تسانده مجموعات برلمانية من مختلف التوجهات في عملية التصويت. واحتمال هذا السيناريو هو الذي دفع رئيس الدولة إيمانويل ماكرون إلى رفض استقالة رئيس الحكومة غابرييل أتال، وحثه على استمرار قيادته للحكومة إلى حين الحسم في التحالفات التي ستشكل الأغلبية المطلقة في الجمعية العامة الفرنسية. ونرى أن هذا الاختيار يمكن أن يكون مدعوما بشكل سري من تجمع أقصى اليمين وحزب الجمهوريين، على اعتبار أنه سيضمن توازن القوى السياسية في مواجهة عودة قوية محتملة لليسار الفرنسي الذي استجمع قواه وتخلى عن خلافاته الضيقة، وهو ما جعله يحتل المرتبة الأولى في الانتخابات الأخيرة.
وبغض النظر عن أي السيناريوهات المحتملة وأقربها للتحقق فإن الواقع الجديد الذي لم يفرز أغلبية مطلقة سيفرض على السياسيين والفاعلين الفرنسيين تغيير قواعد التحالفات بالخروج من الحزبية الضيقة والاصطفافات الكلاسيكية نحو الانتصار لقيم الجمهورية والاتفاق على مواثيق سياسية مفصلة مضبوطة تضمن إنجاح التحالفات المستقبلية، وهو ما يتطلب منهم الاستفادة من دروس التوافقات السياسية التي وقعت في تاريخ فرنسا السياسي، وأيضا من التجارب السياسية لدول الجيران، كألمانيا وهولندا وبلجيكا، حيث لم تعد الأغلبية المطلقة شرطا أساسيا لتشكيل الحكومات المتعاقبة.