أكد أحمد عليبة، رئيس وحدة الاتجاهات الأمنية بمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أن “العالم يعيش، في الوقت الراهن، مرحلة انتقال نووي بين عصريْن؛ وهو ما يطرح صعوبات ضبط منسوب التسلح كما كان الأمر فيما مضى، بالنظر إلى وجود مفارقتين ترتبطان بمتغيرات البنية النووية وعدم شمولية الاتفاقيات والمعاهدات الدولية السابقة للقوى النووية الصاعدة كالصين”.
وتحدث عليبة، ضمن مقالٍ نشره المركز نفسه، عما أسماه “إشكاليات مرحلية تعيق ضبط التسلح النووي على المستوى العالمي”، حددها في “الطفرة الواقعة في مجال التسلح على المستوى الدولي المرتبطة بالقفزة التكنولوجية وكذا التنافس المتسارع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين من جهة وروسيا من جهة ثانية”، مؤكدا في الآن ذاته “ارتفاع مستوى الحيازة النووية”.
متعمقا في تحليل الوضعية الدولية ضمن مقاله المعنون بـ”مخاطر الانفلات.. إشكاليات ضبط التسلح في العصر النووي الثالث”، حاول الكاتب طرح بدائلَ يمكنها الحد من الانفلات النووي، بما فيها “اعتمادُ الذكاء الاصطناعي الذي يظل ذا دور حيوي في عملية الضبط والدفاع”، خالصا في الأخير إلى “انتهاء عصر ضبط التسلح النووي التقليدي بانتهاء مظاهره في وقت لم تبدأ بعدُ مظاهر ضبط التسلح النووي الجديد”.
نص المقال:
مع اختلاف العصور النووية، تباينت معايير وآليات ضبط التسلح. وارتبط توالي هذه العصور بعاملين رئيسيين؛ أحدهما الطفرة التكنولوجية التي غيرت شكل الترسانة النووية وقدراتها وحجمها، والآخر التحولات الهيكلية في النظام الدولي. وانعكس فائض التأثير ما بين العاملين في التطورات الخاصة بالسياسات والعقائد النووية، وما تنطوي عليه من مفاهيم جوهرية وفي مقدمتها “الردع”، وهو أيضا مفهوم متغير مرحليا. وكان كيث ب. باين (Keith B. Payne) أول من سلط الضوء على هذا الارتباط في تأصيله للعصر النووي الثاني (1996)، إذ كان السائد من قبل خلال العصر النووي الأول الارتباط بفكرة النظام الدولي فقط.
وخلال ما بات يُعرف حاليا بـ”العصر النووي الثالث” الذي يؤرخ له باتريك جاي غاريتي (Patrick J. Garrity) منذ عقد تقريبا، يمكن القول إن قواعد ضبط التسلح النووي التقليدية أو تلك التي ارتبطت بحقبة الحرب الباردة قد انتهت، إذ انتهت فعالية كل المعاهدات والاتفاقيات النووية الخاصة بحقبة النظام العالمي ثنائي القطبية، وآخرها معاهدة “نيو ستارت” التي لا تزال سارية نظريا حتى العام 2026 إلا أنها انتهت من الناحية الإجرائية بعد تعليق العمل بها. ومن ثم، يمكن القول إن آليات الضبط التي ظلت سارية على مدار عصرين نوويين لم تعد صالحة للعصر الثالث.
مفارقتان
يُلاحظ أن هناك مفارقتين يتعين التوقف عندهما، وقد تشكلان سمتين أساسيتين للعصر النووي الحالي، وهما كالآتي:
1- المفارقة الأولى تتعلق بالتزامن بين كافة المتغيرات وبالتتابع المتسلسل، فالطفرة التقنية تقود إلى متغير في البنية النووية؛ ما يلقي بظلاله على قواعد الحيازة، وطبيعة الانتشار وقوانين الردع، وسباقات التسلح، وفي الوقت نفسه إرهاصات التغير الهيكلي في شكل النظام الدولي. ومحصلة هذه المعادلة تنعكس إجمالا على قانون السيطرة، إذ إن الوصول إلى نقطة تفاهم في ظل المظاهر النووية والسياسية الحالية هو مسألة صعبة وخطرة في آن واحد.
وثمة سيناريوهات عديدة في هذا السياق، لكن القاسم المشترك بينها هو أن عملية الوصول إلى نقطة التوازن ستتوقف على كافة العوامل؛ بمعنى ما هو المخرج النهائي ما بعد التحديث، وما سيفضي إليه شكل النظام الدولي، خاصة أن عملية التحول السلمي في النظام الدولي محل شك وسط كل ما يجري.
2- المفارقة الثانية تتعلق بفكرة الحتمية، فهل يمكن اعتبار حالة “الانفلات النووي” الراهنة مسألة حتمية، إذ لا يمكن اختصار المشهد في تطورات الحرب الروسية الأوكرانية؛ في حين أن تقارير التسلح النووي، وتحديدا على مدار مؤتمرات “الناتو” منذ ويلز 2014 إلى اليوبيل الماسي للحلف في عام 2024 والجاري الإعداد له حاليا في واشنطن، جميعها لا تخلو من مؤشرات دالة على انتهاء فعاليات ضبط التسلح النووي بشكل حتمي.
ويمكن النظر إلى ضرورات التحديث (الإجبارية تقريبا) في ظل تقادم الترسانات النووية (الثالوث النووي الأمريكي على سبيل المثال في حالة تحديث شاملة)، وعدم شمول القوى النووية الصاعدة مثل الصين في المعاهدات والاتفاقيات السابقة؛ بينما هي الأسرع نموا وتطورا وفق أغلب التقديرات، وفشل الردع التقليدي في منع اندلاع الصراعات الكبرى حول العالم، والتي أصبحت قوى نووية طرفا فيها، إضافة إلى عدم شمول الأسلحة غير الاستراتيجية (النووية التكتيكية) أيضا.
إشكاليات مرحلية
في ظل حالة السيولة الراهنة في المشهد النووي والنظام الدولي، ثمة إشكاليات عديدة يمكن التطرق إليها في ضوء محاولة تفسير واقع ومستقبل ضبط التسلح النووي، وتتمثل في التالي:
1) الطفرة التقنية المتقدمة: كانت الطفرة التكنولوجية سمة العصر النووي السابق؛ لكن العصر النووي الحالي ارتبط بالأساس بطفرة مركبة ومتسارعة، من حيث دور الذكاء الاصطناعي (AI) في عملية التحديث، والقفزة الهائلة في الحوامل ومنصات الإطلاق، إضافة إلى التقدم الهائل في مجالات الاتصالات الفضائية والأقمار الاصطناعية. وإلى جانب هذه المظاهر، ربما هذه الطفرة لها دلالات وتداعيات تتجاوز البعد التقني بالشكل التقليدي، وهو ما يمكن النظر إليه في سياق المؤشرات الآتية:
أ- قفزة الطفرة: فالطفرة لا تشمل فقط بعد الذكاء الاصطناعي، لكنها تتضمن عوامل أخرى لا حصر لها، بعضها معروف ومُعلن، والآخر يدخل في طور الغموض وعدم الإفصاح لكن هناك مؤشرات عليه. كما أن الذكاء الاصطناعي عملية أكثر تقدما عن الأتمتة التكنولوجية.
ب- معيار القدرات: بمراجعة معاهدات “سالت” ثم “ستارت” و”نيو ستارت”، يظهر أن العامل الكمي والمدى حكما عملية خفض التسلح وآليات الانتشار؛ لكن في الفترة الحالية هناك إشكالية معيارية في القدرة. وفي هذا السياق، تتعين الإشارة إلى أنه في العصر النووي الثاني على سبيل المثال أثار باول براكن (PUL BRACKEN) مسألة طموح القوى ما دون العظمى أو الإقليمية وتحديدا بالشرق الأوسط في امتلاك القنبلة النووية، واستبدال “الأيديولوجيا” بـ”القومية”؛ وهو ما قد ينطبق على الحالة الإيرانية.
ج- مستويات السباق: هي نقطة خطر أخرى، فالأسلحة غير الاستراتيجية لم تُدرج على قائمة آليات الضبط؛ في حين أنها أصبحت قضية محورية في ظل حالة الانفلات الراهنة وتصاعد الصراعات، ومظاهر الانتشار ونقل الأسلحة في حالة روسيا و”الناتو” في ظل الحرب الأوكرانية، على سبيل المثال. لكن الأهم من كل ذلك هو التحديث الذي تنطوي عليه ترسانة الأسلحة غير الاستراتيجية في عصر المركبات غير المأهولة، وطبيعة ساحات الصراع المتقاربة. ومع ذلك، يتعين عدم الربط بالضرورة بين مساري التحديث والتصعيد النووي، ولا يُشترط بالضرورة أيضا أن يقود سباق التسلح إلى مواجهة نووية، إلا أن خطر المواجهة لا يمكن استبعاده من الحسابات في الوقت نفسه.
2) الحرب الباردة النووية الجديدة: على الرغم من شيوع مصطلح “الحرب الباردة النووية الجديدة”، فإنه لا يروق للقوى النووية العظمى، ولاسيما روسيا التي رفض وزير خارجيتها سيرغي لافروف هذه الصيغة في تصريحات له في يونيو الماضي؛ بينما تلتزم الصين حالة الصمت ضمن سياسة “الغموض النووي”، في حين أن الولايات المتحدة تتبنى في استراتيجية 2024 سياسة “التنافسية”، كما يتبنى حلف “الناتو” ما يُسمى بـ”الخصومة النووية” مع كل من الصين وروسيا.
وقد يكون مصطلح “الحرب الباردة الجديدة” إشكاليا من زاوية المقارنة مع الحرب الباردة السابقة، فقد سبق تلك الحقبة الهجوم النووي الأمريكي على اليابان، وأسدل الستار نهائيا على الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك أدى تشكل النظام الدولي ثنائي القطبية إلى خوض سباق التسلح النووي بين القوتين العظميين آنذاك؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق.
فيما بدأت أولى خطوات الحد من التسلح النووي بمبادرة عالمية بعد نحو عقدين من سباق التسلح، حينما دخلت معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT) حيز التنفيذ عام 1970، وإن لم توقع عليها الدول النووية حتى اليوم. لكن في المراحل التالية بدأت معاهدات خفض الترسانة النووية العالمية بين القطبين، ووقعت معاهدات “سالت” ثم “ستارت” و”نيو ستارت”.
ويبدو المشهد النووي العالمي الحالي مختلفا، فقد انتهت فعالية المعاهدات النووية، حتى وإن كان من الناحية الإجرائية يُفترض سريان معاهدة “نيو ستارت” حتى 2026، بيد أنها جُمدت في إطار الحرب الروسية الأوكرانية، وهو مؤشر آخر في مقارنات الحرب الباردة.
3) العقيدة والسياسات النووية
أ- الطوارئ والاستجابة: تُعد عملية تغير العقيدة سمة مشتركة أيضا بين أعضاء النادي النووي، ومن الوارد بطبيعة الحال أن تتغير هذه العقائد؛ لكن هل يمكن تصور أن معدلات التغير في العقيدة النووية تعكس المنظور الاستراتيجي لها؟ بصيغة أخرى للسؤال، هل نحن أمام متغير عقيدة بشكل فعلي أم متغير في السياسات النووية القابلة للتغير والتعديل أكثر وفق التطورات والتخطيط النووي للاستجابة لحالة الطوارئ؟ على سبيل المثال، هل ستغير روسيا العقيدة العسكرية وفق إعلان الرئيس بوتين في يونيو الماضي بناء على الوضع الميداني في أوكرانيا وسياسات الهجوم والدفاع والتسلح الجديدة؟ أم سيترقب إعلان “الناتو”؟ أم كلاهما معا؟
ب- مراجعات الردع: حينما يتم تناول مسألة الردع، وهي مسألة محل نقاش لا يتوقف، يمكن القول بشكل عام إن الواقع أكثر تعقيدا من النظرية. فعلى سبيل المثال، “الضربة النووية” هي أحد أخطر الإشكاليات الحالية؛ ففي ظل القوة التدميرية الهائلة للأسلحة النووية الحديثة، وسرعة وحمولة منصات الإطلاق، فإن الجزء من الثانية النووية أصبح يشكل فارقا يُعتد به. وفي هذا السياق، لفت التقرير السنوي الصادر عن “معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام” (SIPRI)، في يونيو الماضي، إلى بعد مهم في مسألة المحددات والدوافع، بالإشارة إلى البعد الجيوسياسي في الصراعات العالمية الحالية، سواء في الحرب الروسية الأوكرانية الممتدة بلا أفق بينما تزداد ضراوتها، أم في حالة تايوان بين واشنطن وبكين.
ويعزز هذه النظرة ما كشفت عنه تقارير دولية بأن استئناف الحوار بين الصين والولايات المتحدة ربما لم يفض إلى الضمانات المطلوبة في كبح التصعيد وعدم اللجوء إلى القوة النووية، وأنه على الرغم من أهمية الحوار في حد ذاته، فإنه ترك هامشا للمناورة في هذه المساحة، ودلالة ذلك تصريحات الأمين العام لـ”الناتو ينس ستولتنبرغ عن ردع الخصمين النوويين؛ الصين وروسيا.
4) روسيا أم الصين؟ ترتبط هذه الإشكالية (روسيا أم الصين؟) بالمنظور الأمريكي وبالتعبية “الناتو” ومقاربة سباقات التسلح. فالمنظور الأمريكي يشير إلى “التنافسية” في حالة بكين؛ نظرا لتسارع نمو التسلح النووي الصيني، والتي تشير التقديرات إلى أنها تتفوق في معدلات نمو الترسانة والتحديث معا. وربما يمكن القول إنه على الرغم من التصعيد في الخطاب النووي الروسي، فإنه لا يزال منضبطا، ولدى موسكو خبرة في مسألة الضبط، وسوابق كبح الانفلات حتى ولو في الأمتار الأخيرة مثل الأزمة الكوبية عام 1962.
لكن الحالة الصينية تبدو مختلفة وبلا سوابق أو خبرات يمكن الاعتداد بها، كما أن حساسية مسألة تايوان بالنسبة لواشنطن وبكين قد تبدو أعمق من الحالة الأوكرانية، أخذا في الاعتبار وجود قوتين نوويتين في أوروبا بالإضافة إلى المظلة النووية الأمريكية في الدول غير الحائزة (إيطاليا، تركيا، بلجيكا، ألمانيا، هولندا). وإلى جانب تايوان، هناك أيضا مخاوف لدى اليابان، فضلا عن التوتر ما بين الكوريتين، وهي مسألة أكثر تعقيدا.
وفي هذا الصدد، تشير التقديرات الأمريكية إلى متوالية زيادة سنوية في الرؤوس النووية لدى الصين؛ إذ وصل معدل الحيازة إلى نحو 500 رأس نووي، وإن كانت صيغة المتوالية هي مسألة تقديرية، لكنها ربما تُتخذ كذريعة في سباقات التسلح، وفق أغلب الاتجاهات الصينية. وعلى الرغم من أن الصين تمارس سياسة “الغموض”، فإن من المتصور أنها ليست معنية في المقام الأول بالمسألة الكمية، قدر الاهتمام بنمو الثالوث النووي، خاصة البحري؛ نظرا لأنها ترى، على سبيل المثال، أن العمود الفقري في الترسانة الأمريكية هو البحرية، وزاد من هذه القناعة تأسيس تحالف “أوكوس” (AUKUS) عام 2021، والذي يضم الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا.
انفلات متصاعد
على نحو ما سلفت الإشارة إليه، جمدت روسيا والولايات المتحدة آخر اتفاقية لضبط التسلح النووي “نيو ستارت”، وسحبت موسكو التصديق على معاهدة الحظر الشامل في نونبر 2023، وفي الشهر نفسه أعلنت روسيا عن إنهاء اتفاقية 1993 الخاصة بالتعاون في مجال الحد من الأسلحة النووية مع اليابان. وكل هذه التطورات تعكس أعراض ظاهرة الانفلات، لكن يتعين تشخيص الظاهرة بشكل عام، وهو ما يمكن التطرق إليه في النقاط التالية:
1) حالة الانتشار: خلال عام واحد من 2023 إلى 2024 تجاوز عدد الرؤوس النووية المقرر نشرها وفقا لمعاهدة “نيو ستارت” (1550 رأسا نوويا استراتيجيا، و700 من الصواريخ بعيدة المدى وقاذفات القنابل بحد أقصى) الضعف تقريبا؛ إذ يوجد 3904 رؤوس نووية تقريبا في حالة تأهب.
2) نمو الطلب: هناك أيضا طلب إضافي على الانتشار، إذ أبدت بولندا استعدادها لاستضافة أسلحة نووية من حلف “الناتو” ردا على نشر روسيا أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا وجيب كالينينغراد الروسي.
3) حسابات الاستقلالية: تثير التفاعلات الحالية حتى على مستوى التحالفات مسألة الاستقلالية النووية بشأن القرار، وليس الحيازة؛ وهو نقاش متعلق بالمظلة الأمريكية، وهناك نقاش أوروبي، وآخر في كوريا الجنوبية في هذا الصدد.
4) تصاعد الإنفاق: وفقا لمؤشرات “معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام” في يونيو الماضي، فإن الولايات المتحدة تقود معدلات الإنفاق لمواكبة خطة تحديث على مدار العقد المقبل، تُقدر بنحو 1.5 تريليونات إلى 2 تريليون دولار، في حين أنفقت واشنطن نحو 51.5 مليارات دولار بزيادة سنوية 18 في المائة في عام 2023. تليها الصين التي أنفقت العام الماضي 11.9 مليارات دولار، ثم روسيا بمعدل إنفاق 8.3 مليارات دولار. وخارج النادي النووي الرئيسي للقوى العظمى، فإن الدول النووية الأخرى (الهند، وباكستان، وكوريا الشمالية، وإسرائيل) تقوم بعمليات تحديث متزامنة للترسانة النووية.
5) التحالفات النووية: على ما يبدو هناك عملية إعادة تشكل، بالإضافة إلى هيكلة بنية التحالفات النووية العالمية. ففي عام 2021، أُعلن عن تحالف “أوكوس”، الذي تركز بنيته على المنصات النووية تحت السطح (الغواصات)، علاوة على عملية الهيكلة النووية في إطار “الناتو”. في المقابل، سلطت الجولة الآسيوية للرئيس بوتين في شهر يونيو الماضي، وتحديدا إلى كوريا الشمالية، الضوء على مسألة التحالفات النووية، والدور الذي قد تؤديه موسكو في تحديث المنصات النووية لدى بيونغ يانغ.
تكتيكات بديلة
يصعب حصر مظاهر سباقات التسلح، لاختلاف طبيعة السباقات القائمة المركبة والمتعددة الأوجه؛ بل إن عملية الحصر التقليدي التي كانت متبعة من قبل هي مسألة تقديرية. فعلى سبيل المثال، لا يمكن إحصاء الرؤوس في وضع التشغيل، في ظل طفرة الصواريخ الفرط صوتيه (Hypersonic)، والتي يمكنها حمل عدد من الرؤوس الحربية.
وعلى الجانب الآخر، يصعب حصر القدرات غير الاستراتيجية في الوقت نفسه. فعلى سبيل المثال، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية من غير المعلوم ما هو الحجم الحقيقي للأسلحة النووية التكتيكية الأمريكية في وضع القواعد الأوروبية بالرغم من أن هناك أرقاما بالفعل. كذلك الوضع بالنسبة للرؤوس التي نشرتها روسيا في بيلاروسيا وكالينينغراد، إضافة إلى المنصات الأخرى في الثالوث، ولاسيما الشبحية والتي تعمل تحت السطح.
ولا يُعتقد أن فكرة العودة إلى ضبط التسلح ممكنة قبل الوصول إلى دورة كاملة من السباق النووي، أو اندلاع حرب نووية سواء على سبيل التصعيد أم الخروج عن السيطرة، وسوء التقدير والخطأ في الحسابات. وفي المقابل، هناك تيار متفائل يراهن على استعادة التوازن الدولي بشكل سلس وسلمي، أو أن الابتكارات النووية نفسها قد تعالج المخاوف، من خلال الآتي:
1) الابتكارات الدفاعية: يمكن أن يؤدي الذكاء الاصطناعي دورا حيويا في عملية الضبط والدفاع، وهذه مسألة شديدة الأهمية، خاصة مع الانتقال إلى مستويات الأسلحة غير الاستراتيجية أو غير المأهولة، وهي نقطة أثارتها حالة كوريا الشمالية بشأن تحديث ترساناتها ومنصاتها بما قد يشمل المركبات غير المأهولة (الدرونز).
2) إدارة الأزمات النووية: كبديل تكتيكي، هناك خبرات فنية في إدارة الأزمات النووية؛ لكنها لم تكن بحجم القدرة على معالجة الاختلالات الراهنة، واتساع مستوى التهديد النووي. وفي هذا الصدد، يشير البروفيسور أندرو فوتر (Andrew Futter)، خبير في السياسة النووية العالمية المعاصرة، إلى مسؤولية الولايات المتحدة كقوة عظمى معنية بضبط قواعد اللعبة النووية؛ ما يُحملها الاستعداد لمنحى الخطر القادم عند نقطة التحول التي لم تعد افتراضية بقدر ما أصبحت محتملة.
في الأخير، يمكن القول إن عصر ضبط التسلح النووي التقليدي انتهى وفق مظاهر العصر النووي السابق؛ لكن لم تبدأ بعد مظاهر ضبط التسلح النووي الجديد. وكما لا يتعين القياس على ما سبق من أنماط السباق والقدرات، لا يتعين القياس أيضا على خبرات وسوابق ضبط التسلح. وكنتيجة لذلك، يمكن تصور أننا إزاء مرحلة انتقال نووي بين عصرين مختلفين.