مأزق الأخلاق في الحرب الإسرائيلية على غزة .. الشرعية الدولية في مهب الرياح

قال محمد عصام لعروسي، المدير العام لمركز منظورات للدراسات الجيو-سياسية بالرباط، إن “الحرب العادلة هي مواجهة تبنى على أساس الشرعية الأخلاقية والحقوقية والإنسانية”، ضاربا مثالا بـ”الحرب على غزة التي تشكل شكلا جديدا من أشكال الحروب اللاأخلاقية التي تجاوزت فيها إسرائيل كل الحدود الممكن تصورها في إدارة حرب غير متكافئة، في غياب أية استراتيجية عسكرية إسرائيلية للقضاء على حركة حماس”.

وحرص لعروسي، في مقال له بعنوان “المأزق الأخلاقي ونظرية الحرب العادلة” نشرته المجلة العسكرية الاستراتيجية “درع الوطن” الإماراتية، على تعريف وتبسيط مجموعة من المفاهيم المرتبطة بـ”نظرية الحرب العادلة ومثالية التصور”، و”السقوط في اختبار تبرير الحرب العادلة”، و”الحرب على غزة والتوظيف الملتبس للحرب العادلة”، إضافة إلى تخصيص محور للإشارة إلى أن “الشرعية الدولية في مهب الرياح”.

نص المقال:

لا شك أن مفهوم الحرب العادلة من المفاهيم الكلاسيكية التي تنتصر لعدالة القضايا وتكيل المديح للأفراد والجماعات البشرية والدول التي تقاوم وتكافح من أجل نيل حقوقها واسترجاع سيادتها، وإن كانت الصراعات العنيفة دائما ما تكشف عن الوجه القبيح للصراعات المسلحة التي تنتهي بخسائر كبيرة في أرواح المدنيين وتدمير للبنيات التحتية ومحو معالم الحضارة والمدنية والمميزات التاريخية للشعوب من خلال استخدام القوة المفرطة التي يكون الهدف منها إخضاع الطرف الآخر والنيل من إمكانياته ومعنوياته، لكن في المقابل يفهم من الحرب العادلة أنها مواجهة تبنى على أساس الشرعية الأخلاقية والحقوقية والإنسانية، أو على أقل تقدير تدخل في مجال الدفاع عن النفس.

هذا الموضوع الشائك يطرح العديد من الاستفسارات حول شرعية اللجوء للقوة وعن الشرعية الدولية ومن يمثلها، وكذلك نهاية العمل بالعلاقة السببية بين استخدام القوة وعدالة القضايا، كما يثير إشكالية التناسب بين حجم القوة المستخدمة والأهداف المتوخاة من التدخل العسكري ووضعية المدنيين أثناء الحرب ورفض البعد الأخلاقي، فهذا يعني انهيارا شبه تام للحرب العادلة، والانتقال إلى شريعة الغاب وتبخيس المبادئ العامة للقانون ومبادئ العدالة والانصاف.

تشكل الحرب على غزة شكلا جديدا من أشكال الحروب اللاأخلاقية التي تجاوزت فيها إسرائيل كل الحدود الممكن تصورها في إدارة حرب غير متكافئة، في غياب أية استراتيجية عسكرية إسرائيلية للقضاء على حركة حماس، هدفها الأساسي كما تدعي إسرائيل، واستهداف متعمد للمدنيين في حرب إبادة جماعية مفتوحة تضرب فيها حكومة الحرب الإسرائيلية بالشرعية الدولية عرض الحائط.

أولا: نظرية الحرب العادلة ومثالية التصور

الحرب العادلة من المفاهيم الإشكالية في حقل الفكر السياسي والعلاقات الدولية والدراسات الأمنية المعاصرة؛ ذلك أن طرح سؤال عن عدالة الحروب هو في ذاته سؤال إشكالي عن جدوى الحروب التي شهدتها البشرية، وما زالت تشهدها. إنه إشكال أخلاقي قبل أن يكون إشكالا أكاديميا: فهل هناك حرب عادلة؟ وهل يمكن تسويغ الحرب من الناحية الأخلاقية؟ هذه الأسئلة تتكرر عادة على مر التاريخ منذ بروز الحرب في صراع المصالح المادية والرمزية بين البشر، والجواب عنها غالبا ما يكون مقتبسا من مبادئ ومعايير خاصة، ليست أعرافا أو قواعد قانونية ملزمة للأطراف بقدر ما هي ميثاق لأخلاق الحرب والسلم، تحدد ما ينبغي أن يكون، وبعضها يؤطر مرحلةِ ما قبل شن الحرب، وبعضها يؤطر مرحلة الحرب بعد اندلاعها.

لعل أول من ناقش الموضوع من زاوية تخصصية “أكاديمية” بحتة هو الفيلسوف الأمريكي “مايكل والزر” (Michael Walzer) في كتابه “الحروب العادلة وغير العادلة”، الذي ميز فيه بين الحربين طبقا لمعايير نظرية. لقد اعتبر والتزر أن نموذج هذه الحرب هو ما يقوم به البلدُ للدفاع عن نفسه في مواجهة اعتداء أو عُدْوان، وبهذا المعنى دافع البولونيون ضد الاحتلال الألماني والإثيوبيون في مواجهة الاحتلال الإيطالي، وكلاهُما مثالٌ على الحرب العادلة، ولو كان بلد ثالث قد انخرط في الدفاع عن البولونيين أو الإثيوبيين-وهو ما لم يُقْدِم عليه أي بلد-لكان قد انخرط بدوره في حرب عادلة؛ ذلك هو ما يمثل القسم الأول من نظريته حول الحرب العادلة وإليه يعود أمْرُ تحديدِ وتعريفِ ما يسمِّيه رجال اللاَّهوت الكاثوليك “سؤال عدالة الحرب” (jus ad bellum)؛ أي العدالة التي تكون على ارتباط بقرار خوض الحرب.

لكن ما ينبغي اعتباره والنظر فيه بعد ذلك هو الكيفية التي تتم بها الحرب وما إذا كانت عادلةً أم لا، ومعرفة ما إذا كان المتحاربون يبذلون ما بوسعهم بصورة منظَّمَة لأجل حمايةِ غير المُحاربين، وخاصة من المدنيين، من تبعات وعواقب الحرب وآثارها. إن مبدأ سلامة غير المقاتلين، هو ما يقود ويوجه التفكير والتأمل هنا حول ما يسميه رجال اللاَّهُوت الكاثوليك “سؤال العدالة أثناء الحرب” (Du jus in bello)، بمعنى عدالة السلوك أثناء الحرب، بقي لنا أن نقف عند خاصيةٍ أو طابعٍ يبقى جديدا إلى حد ما ويمثِّل إسهاما نظريا أكثر حداثة؛ إنه “سؤال عدالة ما بعد الحرب” (jus post bellum)، والأمر يكون مرتبطا بالتغييرات التي يتم فرضها على سبيل المثال على مستوى بنيات النظام السياسي وأشكال الاحتلال، وهذا النوع من الأسئلة التي تفرض نفسها عندما يؤجّل الطرفان حسم المعارك ويصر أحد الأطراف على مواصلة الحرب بغض النظر عن مخلفاتها وانعكاساتها السيئة على حياة الشعوب.

ثانيا: السقوط في اختبار تبرير الحرب العادلة

كشفت العديد من الأحداث في عالمنا المعاصر عن سعي قادة وساسة دول عديدة إلى شنّ الحروب ضد الآخرين وتبريرها، ودعم من يشنّها من حلفائهم، بسبب اتّساقها وتناغمها مع مصالحهم الشخصية والحزبية ومصالح دولهم وحلفائهم، وهو سعيٌ مُدانٌ ومرفوضٌ إنسانياً وأخلاقياً، لكن الأدهى والأمر من هذا هو محاولة مفكّرين وفلاسفة وخبراء اجتراح مبرّرات شنّ حروب الساسة، بالاستناد إلى مفاهيم كونية، ومحاولة تبريرها بذرائع لا تُقيم وزناً لأرواح المدنيين، ولا تأتي على ذكر الضحايا المدنيين إلا استدراكاً ومن دون أدنى مشاعر أو تعاطف، وهو أمر كشفته مواقف اتخذها مفكّرون وفلاسفة حيال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، وخصوصا الألماني يورغن هابرماس، وتبعه الأميركي مايكل والزر، الأمر الذي يستدعي التوقف عنده، والحفر في مستويات تفكيرهم وأطروحاتهم الفكرية والسياسية، بغية إماطة اللثام عن سقوطهم في وحل النفاق الأخلاقي، المعبّر عن الجُبن في مواجهة الحقيقة، حين يتعلق الأمر بإسرائيل، والذي بات ظاهرة ملحوظة لدى بعض المفكّرين في عالمنا الراهن.

في كتابه الحديث “جدل حول الحرب”، نحا والزر منحى مدافعا عن سياسات التدخل: “لم أقصد التخلي عن مبدأ عدم التدخل بل قصدت الاحتفاء باستثناءاته”، ويتابع: “أينما يكون من الممكن إنهاء عمل فاحش وقذر يلزم القيام بذلك، وإن لم نقم نحن بذلك، فمن سيقوم به إذن؟ وتبعا لذلك، فإن السياسيين دون الأشخاص العاديين يمكنهم وحدهم أن ينهجوا سياسة “الأيدي القذرة” (Dirty Hands) في سبيل تحقيق الصالح العام، ولتوضيح ذلك ضرب والزر مثال “القنبلة الموقوتة” ليكون في قلب الجدال الدائر حول الأخلاق والمصلحة، لقد تصور والزر قائدا سياسيا معارضا للتعذيب تم انتخابه حديثا، يقوم بأول زيارة له إلى مستعمرة وعدها بمنحها الاستقلال، إلا أنه وتحت حتمية حماية أرواح الأشخاص، يضطر إلى التصريح بتعذيب متمرد على علم بأماكن القنابل المجهزة للانفجار، فعل ذلك رغم اقتناعه بأن التعذيب أمر خاطئ ومزر.

عقب أحداث 11 سبتمبر أصدر مايكل والزر رفقة ستين أكاديميا أمريكيا بيانا بعنوان “ماذا نحارب؟ رسالة من أمريكا”، وقد جسد البيان أراء فسيفساء فكرية واسعة، على الأقل بالمعايير الأمريكية، بدءا من الليبراليين اليساريين المعتدلين وانتهاء بالمحافظين اليمينيين وفي مقدمتهم فرانسيس فوكوياما وصامويل هنتنغتون، حيث أشار مطلع الرسالة إلى القيم الأساسية التي تمثل، وفقا للموقعين، أفضل ما في الولايات المتحدة، والقيم التي ذهبت إلى الحرب من أجلها لفائدة عموم البشرية، وخلصت الرسالة الى اعتبار أن الحرب على أفغانستان عادلة في مسوغاتها السياسية، ما يعكس أن التبرير الايديولوجي والسياسي هو الموجه الأول للمفكرين الغربيين الذين يهيئون الغطاء الفكري لصناع القرار الغربيين من خلال تبرير استخدام القوة تحت مسمى الحرب العادلة.

يرى ديفيد فيشر أن العبء الأخلاقي لقرار الذهاب إلى الحرب يقع أساساً على القادة السياسيين، لأنهم هم الذين يتخذون القرار بالذهاب الى الصراع المسلح. كما أن المؤسسات العسكرية – بدورها – ليست خارج المساءلة تماماً لأنها هي التي قدمت المشورة والنصح للسياسيين، وأعطتهم الجدوى الخاصة بالمعايير والتناسب، والتكاليف والمخاطر. وعلى المستوى الآخر، بالنسبة للعبء الأخلاقي الثاني، أي استعمال القوة على أرض المعركة، فإنه يقع بالكامل على الجيوش التي تقاتل على الأرض وتقوم في الكثير من الأحيان بتجاوزات خطيرة تمس بحياة المدنيين الأبرياء.

ثالثا: الحرب على غزة والتوظيف الملتبس للحرب العادلة

إن البحث عن المسوغات السياسية للحرب العادلة وغير العادلة، دفع بالعديد من المنظرين الى اختيار الأسلوب الانتقائي في توصيف حرب كيفما كان نوعها ووضع معايير لها. على سبيل المثال، اعتبرت حرب فيتنام من طرف العديد من المفكرين والسياسيين حربا ظالمة وغير عادلة للشعب الفيتنامي، وأن انتصار فيتنام على الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الحرب، هو تأكيد لعدالة الحرب والمقاومة، بينما تعتبر الحرب في غزة مجرد عملية عسكرية تستهدف القضاء على حركة حماس، حسب تعبير والتزر.

من الناحية الإنسانية والقانونية، يجب التوقف عن وضع معايير مصنوعة على المقاس، واعتبار الحرب مهما كانت غير عادلة، ليس لأن التناقض لا يصح بين العدل والحرب فحسب، بل لأن الحرب في حد ذاتها حالة مرفوضة من قبل جميع الدول والشعوب ولم يعد يَقْبل بها الوعي العالمي الجديد، خاصة على مستوى الأمم المتحدة التي اعتبرت، مثلا، الاستعمار نظاما ظالما وغير شرعي ، كما أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية ونظام غير شرعي مثلها مثل الأبارتهايد، وأن الحروب التي تشنها إسرائيل على العرب والفلسطينيين أيضا غير شرعية ولا يوجد فيها وجه أو صفة الحرب العادلة إطلاقا، بل هي عدوان وتماد في العدوان في ظل إصرار إسرائيل على عدم احترام قرارات الأمم المتحدة التي فاقت المئة قرار.

فنظرية الحرب العادلة لا تستقيم إطلاقا في الحالة الإسرائيلية وأن من تحاربه إسرائيل هو صَنِيعها ومَنْتَجها وفي مواجهتها إن في الداخل أو في الخارج. الحروب النظامية تكون عادة بين الدول المتساوية نوعا ما في امتلاك القوة، وليس بين دول وتنظيمات غير نظامية وإن كانت مرفوضة من قبل المجتمع الدولي. يتعلق الأمر هنا بمواجهة كيان قائم على الظلم والعنصرية وأشكال عتيقة من أنواع الاحتلال الذي يرغب في القضاء على الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني من خلال تغيير المعالم الجيو-سياسية في منطقة الشرق الأوسط عبر بوابة غزة، وبعدها الضفة الغربية التي تعج بالمستوطنات والمستوطنين وتقع بالكامل تحت نير الاحتلال.

رابعا: الشرعية الدولية في مهب الريح

إن تحريم استخدام القوة في المجتمع الدولي أو التهديد بها لن تكون له أيه أهمية تذكر ما لم يكن مصحوباً بضرورة احترام القواعد والتشريعات المعيارية والأخلاقية الدولية وقيام مؤسسات دولية تتولى سلطة مباشرة القهر السياسي والمادي، أي الجزاءات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتجريد الدول فرادى من هذه السلطة، والاّ بقيت النصوص عديمة الجدوى من الناحية العملية. وبديهي أن الوصول إلى هذه الغاية السامية لا يمكن إلا بالسير قدماً وبجدية في طريق تعزيز الشرعية الدولية، وما يتطلبه الأمر من “تقليم أظافر” العدوان لدى الدول، وهذا يعتمد أساساً على الحد من اختصاصات وطموحات الدول في الهيمنة وفرض قواعد لعب تقوم على أساس القوة والعدوان على الدول والشعوب المستضعفة.

ما الذي يمكن أن نتوقعه كردود فعل من المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية لإيقاف الدمار والإبادة الجماعية في غزة استجابة للدعوات العاجلة من دول العالم بإدانة إسرائيل، بالنظر للمآسي الإنسانية والقتل الممنهج الذي يتعرض له الإنسان الفلسطيني.

تصبح الحرب العادلة في مهب الريح حين تشهد اجتماعات مجلس الأمن الدولي جدلاً كبيرا على مستوى المقترحات الفورية لوقف إطلاق النار، وكيف أن حق النقض «الفيتو» المستخدم حصراً من خمس دول في المجلس، عرقل لعدة مرات مرور مشروعات القرارات المطالبة بوقف العدوان، خاصة من طرف الولايات المتحدة التي امتنعت أخيرا عن التصويت، بينما ظل الموقف الصيني والروسي على خلافه الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، دون فاعلية تذكر في موقفهما من حرب غزة.

إن الأمم المتحدة التي يذكّر ميثاقها في ديباجته بويلات الحرب، وما يهدد الأمن والسلم الدوليين، وحول كيفية اتخاذ التدابير اللازمة، وفلسطين موقعها ضمن دول أعضاء المنظمة بين دولة ناقصة التمثيل السيادي، لا يحرمها بطبيعة المنطق القانوني المنبثق عن الميثاق الحق في الدفاع والعيش بسلام. وتكون إسرائيل مهدداً دائماً للسلم ما يستجوب قانونا تطبيق المادة 51 من الفصل السابع من الميثاق الذي يمهد للتدخل الدولي، ولكن الأمم المتحدة تعاني من أزمات بنيوية بالنظر إلى بنية النظام الدولي الذي يعرف هيمنة غربية وأمريكية على وجه الخصوص. فحق “الفيتو” المستخدم من جانب الأعضاء الدائمين يضمن لهم أن المجلس لن يعمل بشكل يتعارض ومصالحهم الوطنية.

ختاما، إن نظرية الحرب العادلة التي تعتبر غربية المنشأ تتناقض مع الممارسة الدولية التي تؤمن بالصراع حول النفوذ وتأمين موازين القوى، وتخضع لمنطق التبرير الغربي الذي لا يتوانى في تكييف بعض الصراعات على أنها مهددة للأمن والسلم الدوليين ولمبادئ الأخلاق العالمية بشكل انتقائي، بينما تسمح للدول الخارجة عن القانون لتفرض منطق القوة في غياب أي دور للجماعة الدولية وتغييب للشرعية الدولية.

Exit mobile version