يصغي الكاتب لتوجيهات الناشر والمنتج السينمائي، يرفض أن يخضع لتوجيهاتهما الفنية في فيلم حصل على أوسكار في 2024 عن أحسن سيناريو مقتبس. (فيلم American Fiction، إخراج كورد جيفرسون).
اقتُبس الفيلم عن رواية بعنوان “انمحاء” Erasure للكاتب Percival Everett
انمحاء أمام ماذا؟
انمحاء شخصية وأسلوب الكاتب (أداء متميز من جيفري وراي Jeffrey Wright) أمام ما يسميه جيرار جينيت “مجموع الخصائص العامة أو المتعالية التي ينتمي إليها كل نص على حدة”، وهي خصائص سابقة عن ميلاد الكاتب (جيرار جينيت “مدخل لجامع النص”، ترجمة عبد الرحمن أيوب، دار توبقال للنشر، ط2، 1986، الدار البيضاء ص 5).
يرفض الكاتب الانمحاء أمام جامع النص. يرفض الكتابة وفق الخصائص العامة المتعالية المكرسة ككليشيهات ويريد ترك بصمته الأدبية، لذا لا تُستقبل رواياته بالترحاب.
من هنا ولدت الدراما في فيلم يجْدل ضفيرتي وقائع على الصعيدين الشخصي والفني في حياة كاتب أسود غاضب لأن كتبه تصنف في المكتبات في خانة عرق الكتاب السود ولا تصنف على أساس النوع الأدبي أو المواضيع.
على الصعيد الشخصي يتضح، حسب الفيلم، أن نصف الشعب الأمريكي يعاني من الأرق. بحثا عن السلام والعزلة هرب البطل من أسرته ليتفرغ للكتابة. يتعايش مع تفكك عائلي شديد ومع تدهور مهول لموقع العائلة في حياة الفرد. لقد انقرض المتزوجون في الأفلام الأمريكية، بقي أولاد مطلقون يحرضون أمهم ضد والدهم الميت. لإنقاذ الأم من الحزن أخبروها أنه كان يخونها. أجابتهم بأنها كانت تعرف. صُدموا.
في الاستهلال الفني يتحرّق الكاتب أمام الصفحة البيضاء. يتخيل شخصياته تتحدث أمامه ليفهمها. يريد أن ينزاح عن السائد ويملي على القراء موضوعه وأسلوبه ويحظى بالقبول والنجاح، لكن سوق النشر يفرض عليه أن ينمحي ليتطابق مع قانون السوق. كان الكاتب مصرا على مقاومة الانمحاء، وكان مشغولا بأسئلة أدبية أسلوبية للتعبير عن نفسه…. وفجأة وجد نفسه متورطا في متطلبات حياتية لا تنتهي، وهو ما غير نظرته لحياته العائلية وللفن.
من تلك الورطة وُلد الحل. يكتشف الكاتب أن القليل من الصبر مع أفراد عائلته أفضل لصحته من قطع علاقته بهم.
الفيلم كوميديا سينمائية عن بيئة جامعية موبوءة تعيش تنافسا مرَضيا بين من يكتب ويحفر بحثا عن العمق وبين من ينشر كتابا كل ستة أشهر ويجري ليلمع فيطفو… كبيض فاسد. ينصح الأستاذ الجامعي زميله “اُترك التجسس على حياتي وركز على الكتابة”.
هذا الفيلم حقنة فنية للتعقيم الذاتي ضد كل ما يهدد الذوق الرفيع.
سبق الحُكم الوصف لذا سيلي التعليلُ الحُكمَ.
تتوالى في الفيلم كادرات كلوحات، يحرص المخرج على وضوح مفاصل الأحداث، يجري الانتقال بين المشاهد باقتصاد في الكادرات، في فيلم عن معايير كتابة وتسويق الرواية في أمريكا.
في معرض الكتاب بمدينة بوسطن هناك قاعة خالية وقاعة مزدحمة، تُلغى ندوة القاعة الأولى لعدم توفر الجمهور، حينها
يتجه الكاتب إلى القاعة الممتلئة ليلاحظ تزاحم الجمهور على الكاتبة النموذجية. يقارن أسلوبها بأسلوبه.
الفيلم محاكاة ساخرة للنوع الروائي المطلوب، من الأفضل أن يكتب روائي أسود عن الزنوج ليُنشر له كتابه. وأفضل رواية هي التي تحكي عن شرطي أبيض يطلق النار على شاب أسود. هكذا يفرض الناشر خصائص الموضوع والمنظور لضمان الربح.
أما إن كتب كاتب أبيض عن هذه الواقعة فاحتمال نشر روايته ضعيف، ويضع احتمال النشر بشدة إن كان الكاتب الأبيض يعيش قصة طلاق.
في معرض الكتاب ببوسطن تتبع الكاميرا الروائي الذي ينفذ توجيهات الناشر ويكتب رواية تشبه سلسلة “لعبة العروش”، ويفضل أن يكتب كل كاتب عن عرقه. يبحث الناشر والمنتج عن سجين سابق. تطابقت معايير الناشر والمنتج. أفضل إشهار لأي رواية هو إعلان شرائها لاقتباسها لمسلسل او للسينما. صارت السينما معيارا للأدب.
انقلب الوضع الذي كان سائدا في القرن العشرين.
يطرح الفيلم نظرية في الكتابة، نظرية مؤسسة على المعرفة التجريبية الضرورية للكاتب. يشرح له الناشرون أن المطلوب هو رواية عن شاب أسود يتعرض لإطلاق النار من طرف شرطي أبيض. يطلب الناشرون كتابة رواية تستثمر الكليشيهات المألوفة لدى المتلقي. رواية بقلم كاتب أسود يعيش في الغيتو ويتحامق ويتغابى لتباع كتبه. الطلب هو الذي يقرر شكل العرض. إذن لا جدوى من مقاومة التنميط باسم التفرد والاستقلالية الفنية (يبدو أن توني موريسون خضعت لمجموع الخصائص العامة أو المتعالية المطلوبة في روايتها “أكثر العيون زرقة” 1970 حيث تحلم فتاة سوداء بعيون باربي).
حين يلتقي الكاتب منتجا سينمائيا يدقق الشروط:
على الكاتب أن يسرد وقائع ويتجنب إصدار الأحكام، عليه أن يكتب من المعايشة والمعاينة وليس الإلهام، مطلوب سرد مطابق في جمل قصيرة واضحة ووصف سلوكي، لا مكان للكتابة الإنشائية في السيناريو السينمائي.
مطلوب نص خام، مطلوب كتابة مقتطعة من مأساة العالم الحقيقي، كتابة كتحديق في جرح مفتوح، مطلوب سرد كوارث حياة السود بلغة الشارع. ومن الجيد أن يكون الكاتب قد خرج من السجن ليكون سرده واقعيا مقنعا مؤسسا على المعايشة والمعاينة.
يختم المنتج “لا بد من عنوان رنان، واضح، لا يملأ غموض الروايات قاعات السينما، لذا يحتاج الاقتباس وضوحا كبيرا. إن نهاية الرواية غير مناسبة لفيلم. تحتاج الأفلام نهايات كبيرة”.
هذه هي الخصائص الأسلوبية للكتب الأكثر مبيعا. يزعم الكتاب الذين لا تباع كتبهم أن الانمحاء والتنميط هما ثمن النجاح الجماهيري.
أيها الكاتب لا أحد يهتم بقصتك حتى تفوز، ولكي تفوز هناك وصفة أدبية وفنية تتشابه فيها خصائص البقر ويدعمها ويتبعها الناشر والمنتج.