جامعيون مغاربة يتخطون تسطيح القضية الفلسطينية في تحليل “طوفان الأقصى”
جهد أكاديمي لتزويد المكتبة المغربية والعربية بـ”فهم عميق لطبيعة الصراع القائم في المنطقة، وأبعاد المشروع الصهيوني الفكرية والسياسية والاستراتيجية”، في ظل تداعيات “طوفان الأقصى” ومستجدات القضية الفلسطينية إقليميا ودوليا، يحضر في كتاب جماعي جديد، صدر عن “مؤسسة عقول الثقافة” بشراكة مع “مركز معارف المستقبل للبحوث والدراسات” بعنوان “القضية الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر: الأبعاد التاريخية والتحولات الجيو-استراتيجية”.
شارك في الكتاب الذي نسقه الأستاذ الجامعي المغربي سلمان بونعمان، الباحثون: إسماعيل حمودي، فاطمة الزهراء هيرات، إدريس قسيم، محمد أقديم، عبد الحكيم أحمين، مصطفى الطالب، خالد عاتق، آمنة مصطفى دلة، الحسن مصباح، نور الدين أحمد لشهب، سعد عبد الرزاق السكندراني، يوسف المتوكل، ومحمد السعيد الكرعاني.
يأتي هذا في ظل القصف الإسرائيلي المستمر على غزة بفلسطين المحتلة، وفي ظل المستجدات الدولية التي من بينها “انتفاضة الطلاب في الغرب”، التي يرى الكتاب فيها “حدثا دالا على تحولات عميقة تختمر في المجتمعات الغربية، فهو نجاح مقدّر للسردية العربية الفلسطينية الأصيلة، وفضح غير متوقع للرواية الصهيونية وسرديتها المزيفة، وخطوة مهمة في فضح ممارسات الاحتلال ومحاصرته دوليًا، وتعزيز المقاطعة الأكاديمية والاقتصادية والشعبية”.
ويشدد الكتاب على أن “المعرفة تخيف دائما ‘الغالب/المسيطِر’ الذي يقدم القوة على الحق، فيحرص على توظيفها ضد ‘المغلوب’ بقلب الحقائق وتزوير السرديات”. وبالتالي، فإن “امتلاك المعرفة والوعي بها يحرر الشعوب ويعزز ثقتها في ذاتها، ويشجعها على تحطيم الأساطير والتحرر من الأوهام ومساءلة نظام الأشياء القائم، وتفكيك السرديات المتغلبة”، من قبيل “الإمبريالية والصهيونية في الزمن المعاصر”، مع تسجيل أنه إذا أضيف إلى إذكاء “فضيلتي التمرد والممانعة”، “الإيمانُ والإرادة والرسالية”؛ تغيرت “قوانين المعركة، وموازين القوى، وطبيعة الصراع واتجاهاته لصالح الشعوب الممانعة والمقاومة، وتحققت بشارات النصر والتمكين”.
ويتابع تقديم العمل الجماعي الجديد: “الاشتغال المعرفي على دراسة المشروع الصهيوني وتياراته في علاقته بالقضية الفلسطينية، يقتضي الوعي المركب بالآخر/العدو والتعرف العلمي على مشروعه وآليات اشتغاله، وكذا مناهج تفكيره وحركاته ونفسياته، والفلسفات المؤطرة لفكره وسوسيولوجيا استيطانه، بالإضافة إلى فهم تحولات بنياته الاجتماعية والاقتصادية وجغرافيا تمدده في المحيط وتحالفاته الإقليمية والدولية، رصدا وتحليلا واستشرافا، فضلا عن وضع القضية الفلسطينية في سياق صراع المشاريع الكبرى ورهانات القوى الدولية والسياسات الغربية في المنطقة (…) إضافة إلى تحليل الوضع الفلسطيني والعربي والدولي في خضم تحولات معركة طوفان الأقصى”.
ويسعى الكتاب إلى فهم “طوفان الأقصى”، وقراءة تداعياته على المغرب، وتقديم نموذج تفسيري جديد له، مع استحضار تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة في اقتصاد الاحتلال الإسرائيلي، والتذكير بـ”عِبَر من التاريخ” تقدّم “دروسا للمستقبل”.
ويهتم العمل أيضا بـ”التأثيرات الإعلامية لعملية طوفان الأقصى”، و”القضية الفلسطينية” بين السينما الغربية والسينما العربية، ويحلّل أسس ومرتكزات “المشروع الصهيوني” و”الاستعمار الاستيطاني”، و”الفشل السياسي والأخلاقي لمسؤولية الحماية”، وموقع القضية الفلسطينية في “التربية الوالدية” للأطفال، كما يقترح أدوات مفكرينَ مترجمةً قصد التفكيك والفهم.
ومن بين ما يثير الانتباه إليه الكتاب الجماعي أنه “قبل طوفان الأقصى، كانت القضية الفلسطينية تعيش أصعب مراحلها التاريخية وأسوأَ حقبها السياسية والجيو-استراتيجية، بل شهدت أخطر لحظات التواطؤ على إسكات الحق الفلسطيني وتهميش قضيته والتنكر لحقوقه ومطالبه”، وهو ما زاد من حدته، وفق المصدر ذاته، “استمرار الحصار الظالم على قطاع غزة لأزيد من سبع عشرة سنة في ظل عدوان مستمر من الكيان على القطاع، يهدف إلى فصل غزة عن فلسطين، فضلا عن استمرار انتهاكات المسجد الأقصى وتنامي سياسات تهويد القدس وتوسيع الاستيطان. كل ذلك أدى إلى بروز أزمة تاريخية واستراتيجية غير مسبوقة في تاريخ القضية الفلسطينية والمشروع الوطني الفلسطيني المثخن بآفة الانقسام والاستقطاب”، مع تشكل تيار “محاولة توطين المقولات المتصهينة في التربة العربية الإسلامية وإدماجها في صناعة القرار السياسي عربيا وإقليميا ودوليا.”
لكن “ذكّر ‘الطوفان’ العالم بأجمعه، أنه بعد أكثر من سبعين عاما على النكبة المستمرة، وأزيد من خمسين سنة على النكسة وضياع فلسطين وتهويد القدس، لن تتغير حقائق الصراع مهما اجتهدت الصهيونية ومؤيدوها وأصدقاؤها في تحريف بوصلة الصراع وتغيير الوجهة وتمييع المعاني وتسميم الفكر؛ وأكّد أن قضية فلسطين لا يمكن تهميشها أو تغييبها، كما أكد ‘النموذج الطوفاني’ المبدع أن الكيان الصهيوني ليس قوة مطلقة تحكم العالم ويستحيل هزمها، ففي كل معركة ورغم اختلال موازين القوى المادية يثبت صاحب الحق أن كل شيء ممكن أن يتغير في حركة التاريخ إذا توفرت الفكرة الأصيلة والإرادة الحرّة وتألقت الفاعلية الإنسانية وتفاعلت مع الإيمان المجاوز للمادة.”
وكتب مقدم العمل الجماعي سلمان بونعمان أن “حدث السابع من أكتوبر وتداعياته وتأثيره قد تجاوز مساحة فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي ليفرض نفسه على بنية النظام الدولي برمته، فيختبر مؤسساته وفاعليه وقوانينه ويضعها على المحك، ثم يخترق ‘هدير فلسطين’ قلب الجامعات الغربية والنخب الأكاديمية بها، لتصبح التظاهرات الطلابية في أرقى جامعات أوروبا وأمريكا وأشهرها سمعة ومصداقية، مقرات للاعتصام والاحتجاج ضد الإبادة الإسرائيلية والتمويل الأمريكي للإبادة (…) وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ الجامعة الغربية (…) في وجه الأجهزة الأمنية التي تدخلت لفض الاعتصامات واعتقال الطلاب وتهديدهم بالطرد في صيغة تذكر بالدول الديكتاتورية والقمعية.”
وفي حين وقع هذا غربيّا، “اختارت غالبية النخب الفكرية والأكاديمية العربية ‘الحياد السلبي’ وقررت ‘الصمت’ تجاه الإبادة الجماعية في غزة بدعوى الموضوعية أو المصلحة الوطنية، كما وظف بعضهم قدراته المعرفية وأدواته البحثية لتبرير الاحتلال بتحميل المقاومة المسؤولية عن هذه الجرائم البشعة وغير المسبوقة”، ليصير “خطاب هذه النخب، بوعي أو بدون وعي، جزءا من مشروع التطبيع الهادف إلى الصَّهينة الشاملة التي تتعرض لها المنطقة، فضلا عن فقدان هذه النخب للمصداقية العلمية والأخلاقية في تحيزها لصالح الظلم والاستكبار العالمي، وانكماشها عن إبداء أي موقف أخلاقي منحاز للمظلومين.”
هذا من بين ما يفسر أهمية هذا الجهد الأكاديمي الجماعي لـ”استيعاب مختلف أبعاد القضية الفلسطينية في ظل تحولات معركة طوفان الأقصى، وما أفرزه من نماذج جديدة في الحروب العسكرية وأشكال المقاومة التحررية، وما ولّده من حروب إعلامية ورقمية ونفسية تستهدف بالصورة والدعاية والتحكم في المحتوى الرقمي، خلق حالة ملتبسة من لوم الضحية وتبرئة الجلاد، ناهيك عمّا حصل من ارتباك في التجارة والملاحة الدوليتين ومن تعثر في النظام الاقتصادي العالمي، وما خلفه من توتر وإحراج قانوني وأخلاقي للمؤسسات الدولية.”
وفضلا عن “تحليل الوضع الفلسطيني والعربي والدولي في خضم تحولات معركة طوفان الأقصى”، فإن الكتاب الجديد “القضية الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر”، هو “محاولة من أجل بناء موقف علمي يتجاوز العرض التسطيحي، ويغوص في أعماق الأحداث بما ينتج رؤية للواقع والمآل أكثر تفسيرية وموضوعية منصفة.”
تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News