جمعت الأنشطة المنظمة ضمن فعاليات الدورة الـ29 للمعرض الدولي للنشر والكتاب، كلّا من المؤرخ عبد الأحد السبتي، مؤلف كتاب “من عام الفيل إلى عام الماريكان: الذاكرة الشفوية وإشكالية التدوين التاريخي بالمغرب”، والسوسيولوجي الغالي أحرشاو، محرّر “اللغة والمَعرفيّة – دراسات في اكتساب اللغة وتعلمها”، باعتبارهما الكاتبين الحائزين مناصفة جائزة المغرب للكتاب في صنف العلوم الإنسانية برسم سنة 2023.
هذا اللقاء الذي أطره الأكاديمي والناقد والروائي حسن بحراوي، منح فرصة لزوار المعرض لكي يتعرّفوا أولا على العملين، وأيضا “الترويج أكثر”، حسب أحد المعلقين، “لجائزة المغرب للكتاب وتقريبها من عموم المواطنين”، وإشعارهم أيضا بمدى حضور “الصّنعة المعرفية والجدّة الأكاديمية” في الأعمال المتوجة، خصوصا في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تختلف عن نظيرتها الدقيقة والحقة في عناصر جدّ مفصلية.
تأسيس عفوي
الغالي أحرشاو قال بعدما قدّمه بحراوي بعناية كبيرة، إن بعض الأوصاف التي يُقدم بها، خصوصا في المشرق، تقول إنه مهتم بالسيكولوجيا في العالم العربي “تأريخا، تنظيرا، بحثا ونقدا”، لكن حين يتطلع إلى نفسه يكتشف أن “هذه التقديمات تبين أننا أصبحنا نتوفر على تراكم بالمغرب أصبحنا نؤسس به بالنسبة لعلم النفس”، مضيفا: “ما قاله مسير اللقاء عن الكتاب يبرز صدى القارئ حين يكون صارما ومتخصصا وناقداً، فهذا الصدى يعطي المشروعية للاستمرار”.
وسجل أحرشاو في “انتقال سلس” نحو التعريف بالكتاب، ما أسماه “الصعوبة التي يجدها المؤلف أو الباحث حين يحاول تقديم عمله”، قائلا: “في الحقيقة، موضوع الكتاب هو عنوانه، وفي الواقع أستطيع أن أقول إن علاقة اللغة المعرفية أصبحت منذ ثمانينيات القرن العشرين تندرج في صميم السّجالات الكبرى التي تتعلّق بالعلوم المعرفية الكبرى اليوم بمختلف تخصصاتها وميادينها ومقارباتها”.
وأضاف السوسيولوجي المتوج بالجائزة سالفة الذكر، أنه “إذا كانت المعرفية الإنسانية تحيل بصورة عامة على ما هو ذهني معرفي، فأكيد أن اللغة ذات الوظيفة التمثلية والتواصلية في آن واحد كانت ولا تزال تشكل الاختراع الهائل للإنسان، وتندرج في خانة السيرورات الذهنية القابلة للبحث والتقصي”، متسائلا: “ما المقصود بمعرفيّة الإنسان ونشاطه الذهني حول اللغة؟ وما علاقة ذلك بسيرورة نمو الاكتساب خلال عمليات التعلم؟ وإلى أي حد يصح تشخيص مراحل تلك السيرورات ومحدداتها وتمظهراتها؟ ثم، ما هي مقومات سيكولوجية اكتساب اللغة العربية في ظل خصوصياتها الفونولوجية والمورفولوجية والبيداغوجية؟”.
واعتبر المتحدث أنه “إذا كانت الإجابة عن هذه الأسئلة تشكل محور الكتاب الحالي، الذي يقارب موضوع اكتساب العربية وتعلمها في ظل علاقة اللغة بالمعرفية، فإن السيكولوجيا المعرفية تمثل إطارا مرجعيا لهذا المنتوج الذهني الذي يشكل في جوهره رصدا مفصلا لما راكمته تجربتنا الأكاديمية وخبرتنا البحثية من معارف وخلاصات بهذا الخصوص”، مسجلا أن المسعى الأساسي وراء الكتاب الذي يقع في 7 فصول، هو “تحقيق هذا المبتغى من خلال استقصاء ملامح علاقة الأنشطة المعرفية بسيرورة اكتساب اللغة العربية وتعلمها”.
“تأريخ ينقرض”
عبد الأحد السبتي، الذي قضى أزيد من 3 عقود من البحث لإعداد الكتاب الحاصد للجائزة، فضل تقديم “بعض الشذرات المهمة”، مبينا أن النقطة الأولى تتحدث عن المؤرخ والثقافة الشفوية، والثانية هي الماضي والحاضر، أي راهنية الكتاب، مبرزا أنه بالنسبة للنقطة الأولى، فما يمكن قوله هو أن مفهوم “العام” ظاهرة ثقافية في طور الانقراض، كانت مهيمنة في السابق، يطلق عليها عبارة التأريخ بالحدث أو تسمية السنة، عوض الأرقام التي تفترض التقويم (سنة 2024 مثلا).
وأوضح السبتي أن “هذا التقويم عند العرب لم يبدأ إلا مع الخليفة عمر بن الخطاب، وحتى عندما وُجد تقويم هجري ظلت المجتمعات العربية الإسلامية تمارس التأريخ بالسنة”. ثم عاد إلى مسألة الانقراض قائلا: “هو مهدد، لكن طبعا ليس الغياب الشامل، فنحن نلاحظ من حين لآخر ورود هذه التسميات في الخطاب الأدبي على غرار ما قامت به ليلى أبوزيد في روايتها [عام الفيل]، كما يحضر في النقاش الإعلامي والسياسي، حين نسمع [عام البون] الذي يعني ندرة الموارد”.
وبخصوص استمرار هذا النوع من التأريخ في الخطاب اليومي المغربي، لفت المؤرخ المغربي إلى عبارة طريفة سمعها مؤخرا في أحد الفيديوهات المتداولة: “نحن في [عام مية ومية]، التي تلفظت بها سيدة في سوق الخضر والفواكه، كإشارة إلى أن كل شيء ارتفع سعره وأصبح بـ[مائة ريال] (5 دراهم)”. واستدرك موضحا: “رغم هذا الحضور، لا يدعي هذا الكتاب أنه يكتب التاريخ الشفوي، لكون هذه المسألة في المغرب تقريبا غائبة”.
وأضاف السبتي أن “العمل يلتقي بمفهوم التراث الشفوي، أي الذاكرة الشفوية وكيف تشتغل، ولكنه يتعاطى مع التراث الشفوي بقراءة غير تراثية، لأن التراث الشفوي عادة مقاربته مقاربة هوياتية ولا تطرح أسئلة، ولكن مقاربتي تطرح أسئلة وكانت بالأساس هي العلاقة بين الذاكرة الشفوية والذاكرة العالمة”، مؤكدا أن “الأطروحة الضمنية للكتاب تسير خلافا لما يقوله المؤرخون بأن هناك قطيعة بين الثقاقة الشفوية والثقافة المكتوبة”.
وأورد مجملاً: “انطلقت في الموضوع بعدما لاحظت أن المؤرخين القدماء المتخصصين في تاريخ الأسر الحاكمة والفقهاء، إلخ، يقولون: وهذا العام تسميه العامة عام كذا؛ وجدت حينها أن هناك صدى للثقافة الشفوية في الثقافة الكتابية أسس للفضول الذي جعلني أقضي سنوات عديدة في تحضير الكتاب”.