أثبت الدورة الـ29 من مهرجان سينما البحر الأبيض المتوسط بتطوان أن تكريم الفنان فوزي بنسعيدي لم يعد “أمراً مثيراً للدهشة”، مادامت تتويجات الرجل “مستحقّة” كما يصفها زملاؤه ونقاد كثيرون يؤمنون بأن المخرج والممثل الذي صرخ أوّل مرّة بمكناس، مولاداً، بات “سائراً في سماء السينما المغربيّة، بالنظر إلى التجربة الغنية التي يقدمها للفن السابع بالبلاد منذ أواخر تسعينات القرن الماضي”.
بنسعيدي الذي “جرّته” الصورة السينمائية إليها بعدما كان مسرحيّا عقب تخرجه من المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط ومتابعة دراسته في التخصص نفسه بفرنسا، لم يمض نصف السنة بعد على آخر تكريم له بالنّجمة الذهبية بالمهرجان الدولي للفيلم بمراكش في نونبر 2022. له باقة من الأعمال “تتحدث عنه أكثر مما يتحدث هو عنها”، وفق تعبير النقاد الذين بينوا ملامح “مادته السينمائية” لجريدة النهار.
وأضافوا في شهادات تحمل الكثير من التطابق أن “عطاء هذا المخرج للسينما لا يستحقّ النفخ أو التّزلف، بقدر ما يحتاج قول الحقيقة: إن أعماله عالمية”. لكن، ما الذي يميّز مبدع “موت للبيع” (2011) ويمكن أن يحضر الآن في سياق تتقاطر فيه التكريمات والجوائز بينما هو يصرّ على أن يعترف بأنه “يقف وينظر بعين ناقدة لما أُنجز، وكيف يمكن للإنسان أن يتطور ويتجدد حتى لا يغدو مبتذلاً؟
“مخرج حقيقي”
إدريس القري، ناقد سينمائي وفني، ثمن “ثقافة الاعتراف” في حق رجل أضاف “لمسة نوعية” إلى الحقل البصري المغربي، معتبرا أن “ما يميز هذا المخرج هو أنه تتوفر فيه المؤهلات والقدرة والحساسية التي تجعله مايسترو ينفلت من خانة الإخراج بالمعنى التقني ليندرج في الإخراج بالمعنى الإنساني والفني؛ فهو ذاك الإنسان الفنان المتمكن تقنيا الذي يحمل في الوقت نفسه رؤية”.
النظرة التي يتميز بها بنسعيدي، حسب القري، تنبع من اطلاع على التراث السينمائي الكوني، ومن تبني مفهوم خاص للإبداع وللفن والسينما انطلاقا من تجربته الكبيرة، موردا أن مخرج التحفة “وليلي” (2017) هو “من الناس القلائل الذين يستطيعون عندما تتوفر جميع العناصر التقنية في بلاطو التصوير، ولاحقا في التركيب والتوضيب والميكساج، أن يخلقوا مناخا سحريا، يتعدى حدود ما يمكن أن تقوله التقنية”.
وتابع القري شهادته النقدية التي ألقاها بتجرد، بأن المتفرج في أعمال فوزي بنسعيدي يجد نفسه داخل الصورة، وليس مراقبا ومشاهدا بسيطا من خارجها”، مرجعا هذه “الحرفة التي يتقنها بنسعيدي” إلى كونه ممثلا، وبالتالي “يتمثل بشكل عميق جداً، وهو مخرج، ما معنى تقمص الشخصية؟ وكيف يمكن تجاوز تقمص تقني إلى عيش الشخصية؟ وهو في الوقت نفسه كاتب سيناريو، وبالتالي فهو خبير باللغة وزواياها ومخابئها”.
ولم يغفل الناقد المغربي ما اعتبره “إحساساً باللغة يحضر لدى المخرج، باعتبارها جزءاً من الجسد وجزءا من الفكر ومن الانفعالات والأحاسيس أيضا”، وقال: “ينضاف إلى هذا أنه مخرج كذلك، بمعنى يستطيع أن يجمع ما بين التقنيين كلهم ليخلق ذلك الشيء الذي يحسّ به وليس يدركه ويستوعبه فقط؛ وحين تحضر هذه العناصر كلها نكون أمام إنسان يستطيع أن يحكي سينمائيّا وأن يدخل المشاهد إلى قلب الفرجة”.
أصالة الأسلوب
الناقد والكاتب محمد شويكة قال إن “تجربة المخرج والممثل فوزي بنسعيدي تظل أساسية في المشهد السينمائي المغربي”، مؤكدا تتبع مسار أفلامه منذ الفيلم القصير “الحافة” (1997)، الذي أعلن فيه عن توظيف متسق لتقنيات سينمائية، وعالج فيه مشكلا سيعود إليه في فيلمه الروائي الأول “ألف شهر” (2003)، ويتعلق بموضوع الطفولة والهشاشة الاجتماعية، وكما طرحه في فيلمه الروائي الأول طرح مسألة السلطة بشكل عام.
السلطة التي انشغل بها المخرج منذ بدايته، حسب ما قاله شويكة لجريدة النهار، “تشمل السلطة كمنظومة تسييرية وكوعاء اجتماعي وثقافي حاضر في العائلة والوظيفة والشارع، إلخ”، مشيرا إلى أن “الحافة وألف شهر مؤسِّسان لتجربته، وما جاء بعدهما هو عبارة عن تفريعات أو تنويعات وإضافات”. وتابع: “اعتماده على اللقطة العامة (plan général) ملائم جدا لتصوره للمجتمع المغربي، ويتميز أيضا بتراوحه بين المزج بين المشهدية المسرحية والمشهدية السينمائية من خلال إدارة الممثل وموضعة الأشياء داخل الإطار”.
ولفت الناقد المغربي إلى “انتقاء المخرج زوايا نظر تفرده وحركة كاميرا واستعمال كثير للقطات الثابتة، وكل هذا ساعد كثيرا على فهم أسلوبه السينمائي الذي بوأه أن يكون أحد أهم المخرجين المغاربة وأحد أهم المخرجين في الساحتين العربية والإفريقية وأيضا في الساحة الدولية، بالنظر إلى حصول أفلامه على العديد من الجوائز والتنويهات والتقديرات والعروض، وأيضا الحظوة النقدية في الكثير من المنابر العربية والدولية”.
وأضاف: “يمكن القول إنه استطاع أن يختار لنفسه أسلوبا خاصا به يتلاءم والمجتمع المغربي، فسينماه تبتعد كثيرا عن السينما الهوليوودية، وتقترب أكثر من سينما أوروبا أو سينما العالم الثالث التي تحاول أن تقارب قضايا الأصالة والمعاصرة والصراع على السلطة وأهمية الأسرة ودور بعض القضايا فيها من قبيل الاقتصاد وغيره”، مشيرا إلى فيلمه الأخير “الثلث الخالي”، الذي يحمل بين ثناياه رؤية ما بعد كولونيالية تتميز بالعودة إلى المغرب الفارغ، الخلاء، العراء وإلى مسألة الانتقام والهشاشة الاجتماعية.