“إفريقيا حين تُفكِّر في ذاتها” .. أفاية يناقش معركة الفكر الفلسفي بالقارة

يستمر المفكر المغربي محمد نور الدين أفاية في الاهتمام بالفلسفة الإفريقية، التي يرى أن كتابات أعلامها تبين “أنه يتعين إعادة بناء تصور جديد لنمط حضور إفريقيا وللجسد الإفريقي لكي يتحقق الإعلاء من شأن الفكر الفلسفي الإفريقي، والاحتفال الفعلي بمتخيل الأفارقة الثري والمتنوع، باعتبار أن هذا الجسد نال الاستعمار من شرفه، وعرَّضه للتدنيس والاغتصاب والتدمير”.

ومع إدراك أفاية لتعقيد الواقع الإفريقي، ومسؤولية فلاسفة القارة في “التفكير من داخل هذا الوضع المُعقد”، تحدث عن “فلاسفة أفارقة انخرطوا في معركة فكرية من أجل بناء تمثل جديد لإفريقيا، بدءا بمواجهة آثار الاستعمار، والانزلاقات المتعددة التي طبعت التجارب السياسية لمرحلة الاستقلال”، في سبيل “تحقيق مسعى تحرير العقول من تبعات الاستعمار، وحث الشباب على تعلم الانفتاح على العالم، والتعامل معه على أساس مبدأ مركزي تكون فيه إفريقيا مالكة لمصيرها، أو على الأقل غير تابعة أو مرتهنة بأحد.”

ومن هؤلاء الأعلام الذين يهتم بهم أحدث مقالات الأكاديمي أفاية المعنون بـ”إفريقيا حين تُفكّر في ذاتها”، الفيلسوف الكاميروني جان غودفروا بيديما، الذي اهتم بالشرخ بين فلاسفة القارة في تناولهم للإشكاليات الكبرى التي يواجهها الفكر الإفريقي المعاصر، وحضور الفلسفة الغربية لديهم، وقدّم فلسفات إفريقية مثل “الفلسفة الزنجية” وعلاقتها بالفلسفة العالمية، فضلا عن اهتمامه بآفاق الفكر الإفريقي.

هذا نص المقال

تُبين كتابات المفكرين والفلاسفة الأفارقة، أنه يتعين إعادة بناء تصور جديد لنمط حضور إفريقيا وللجسد الإفريقي لكي يتحقق الإعلاء من شأن الفكر الفلسفي الإفريقي، والاحتفال الفعلي بمتخيل الأفارقة الثري والمتنوع، باعتبار أن هذا الجسد نال الاستعمار من شرفه، وعرَّضه للتدنيس والاغتصاب والتدمير. ولإخراجه من دائرة السُبات والجمود، يتطلب الأمر إنعاش هذا الجسد وبث الروح في أوصاله حتى يستعيد الحركة. والفيلسوف الإفريقي، وهو يفكر فيما جرى ويجري، يدرك أن الأمر ليس مجرد أماني أو أوهام، وأن الواقع الإفريقي في منتهى التعقيد، كما أنه يدرك أن عليه تحمل مسؤولية التفكير من داخل هذا الوضع المُعقد. لذلك وجدنا فلاسفة أفارقة انخرطوا في معركة فكرية من أجل بناء تمثل جديد لإفريقيا، بدءا بمواجهة آثار الاستعمار، والانزلاقات المتعددة التي طبعت التجارب السياسية لمرحلة الاستقلال. وذلك لتحقيق مسعى تحرير العقول من تبعات الاستعمار، وحث الشباب على تعلم الانفتاح على العالم، والتعامل معه على أساس مبدأ مركزي تكون فيه إفريقيا مالكة لمصيرها، أو على الأقل غير تابعة أو مرتهنة بأحد.

ومن بين الفلاسفة الذين خاضوا في مواجهة الإشكاليات الفكرية التي تطرح على إفريقيا منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، يبرز جان غودفروا بيديما Jean-Godefroy Bidima ، وهو فيلسوف كاميروني. ويعتبر بيديما أن المفكر الإفريقي مطالب بفحص الحقائق الإفريقية والكونية من خلال مساءلة “الما لا يقال”، والهوامش ونقد الأوهام المغلوطة، وتفكيك منابع العنف التي تفرضها “عقلية الهيمنة” التي ميزت “العقل الأداتي” الذي يشتغل بناء على قاعدة “الغاية تبرر الوسيلة”. ذلك أن المفهوم الشهير للتنمية كان، في الواقع، يقوم بوظيفة رئيسية تمثلت في تأجيج حرب تافهة في خدمة العقلانية الأداتية التي تنشغل بالحساب وبالسوق. وضحَّت السياسات المتبعة، بالتالي، بما ليس مهما بالنسبة للسوق، وبتفريق “الإنسان”، باعتباره موضوعا، عن أسسه الثقافية، كما تركوا الشباب في وضعية ضياع دائم.

نشر بيديما كتابًا عن “الفلسفة الزنجية الإفريقية” سنة 1995، يعلن في مقدمته أن مسألة إعطاء تعريف عمَّا هو مقصود بـ”الفلسفة الزنجية الإفريقية” لا يهمه كثيرا، بقدر ما لا يهمه التساؤل عن مكان نشأتها؟ وكيف أتت؟ ولا إلى أين تسير؟وللاقتراب من انشغالات هذه الفلسفة تناول في كتابه خمس محاور بدت له تستحق الإبراز: تاريخ الفلسفة الزنجية وسجالاتها، علاقاتها بالفلسفة العالمية، حقولها ومناهجها، تقييمها النقدي،

وانفتاحها على المستقبل. وفي معالجته لهذه المحاور كان لا بد من أن يتوقف عند ما تركه كتاب بلاسيد طامبلز عن الإثنو-فلسفة من أصداء، وما مارسه من تأثير على مفكرين أفارقة، ومنهم أليكسي كاغام من رواندا، وجون مبيتي من كينيا، وما تعلق بوقْع مؤلف طامبلز في كتابات ليوبولد سيدار سانغور، وبالخصوص نظرية الزنوجة التي دعا إلى تبنيها والأخذ بها، هو وإيمي سيزير، باعتبارها تصورا يميز المفكرين الأفارقة قياسا إلى ما تنتجه فلسفات العالم من مذاهب ونظريات. ومُؤدى هذه النظرية أن الثقافة التقليدية والنظرات التي أنتجتها الشعوب الإفريقية للعالم تحتوي على فلسفة ضمنية ثاوية يتعين استخراجها والبناء عليها لإنتاج نظر فلسفي أصيل.

يسلم بيديما بأن المناقشات الفلسفية بين المفكرين الأفارقة لم تقتصر على شرعية أو رجاحة ادعاءات الإثنو-فلسفة من عدمها، وهي المناقشات التي استمرت لأكثر من عقدين، لأن الحقل الفكري والسياسي الإفريقي تأثر، فضلا عن ذلك، بتيارين رئيسيين اثنين هما: النزعة الوحدوية الإفريقية (البان أفريكانيزم) Panafricanisme، والماركسية؛ بل ثمة فلاسفة انتقدوا الإثنو-فلسفة انطلاقا من هذا التيار أو ذاك. وفي هذا السياق أبرز النقاش الذي دار بين ما يسميهم ب”الحيويين” vitalistes داخل الاتجاه الإثنو-فلسفي، وعلى رأسهم سانغور، والآخذين بالمادية، ومنهم الغاني كواسي ويردو Kwasi Wiredu، والكيني أوديرا أوروكو Odera Oruka. وهو نقاش يبرز مدى الشرخ الذي ظهر بين بعض الفلاسفة في تناولهم للإشكاليات الكبرى التي يواجهها الفكر الإفريقي المعاصر.

الأمر الذي دفع بيديما إلى تناول أشكال حضور الفلسفة الغربية متوقفا عند أرسطو، هيغل، أعلام الهيرمينوتيقا، مدرسة فرانكفورت، البنيوية، فلسفة اللغة، الفينومينولوجيا، الشعرية، وما بعد البنيوية. وبعد عرض لتجليات هذه الفلسفات في كتابات الفلاسفة الأفارقة، لم يخف تبنيه للمقومات المفاهيمية والسياسية للنظرية النقدية داعيا إلى تأسيس “هيرمينوتيقا نقدية” تمنح ما يلزم من أهمية لعامل التخيل، بل وللسخرية؛ بما يستدعي ذلك من نقد للنزعات التي تكتفي بتأويل الواقع من خلال إعطائه معنى بهدف تكسير القناع بشكل أفضل، وإبراز مظاهر الغلو والإفراط. ولعل استلهام مقولات النظرية النقدية يساعد، كما يرى بيديما، في قياس “الورش النقدي” الجاري اعتمادا على مفاهيم فلسفية جديدة تتخطى الاقتصار على إشكاليات الهوية والتقدم والحداثة.

وإزاء الاستعمالات الأداتية أو القراءات الأسطورية للزمن في الفكر الإفريقي، يقترح بيديما فهمًا سياسيا لمكان وزمن غير مكتملين، على أساس أن يرتبط هذا الفهم بوعد يحل محل الزمن والمكان الذي حنَّطه التناول الرسمي للتاريخ. ومن هذا المنطلق يدعو إلى تبني مقاربة تجزيئية (ميكرولوجية) للواقع بدل الانغماس في خطاب ينشغل بالكليات التي رَهَن الفلاسفة الأفارقة أنفسهم بها؛ بل ويعدد جملة نقائص يعاني منها الخطاب الفلسفي الإفريقي، منها، أولا؛ أنه نظر إلى التاريخ، دائما، باعتباره تقدما، والحال أن هذا التصور مغلوط وخادع في عرضه للحقيقة، ما دام يخفي قسطا من الكذب أو التخيل. ومَن ما يزال يلتزم بهذا الفهم يبقى رهينة مقاربة أصولية أكثر مما هي نقدية. وأما مظهر النقص الثاني الذي تعاني منه كتابات الفلاسفة الأفارقة، خصوصا أولئك الذين دشنوا النظر الفلسفي داخل إفريقيا، فيتجلى في تغييبهم لمسألة الجسد. ذلك أنهم يجهرون باستعمالهم لـ”مفاهيم نقية”، و”تصورات طاهرة”، يبررون بها تغييبهم لموضوع الجسد والمرأة والأنوثة والجنس؛ وهو ما يدل على ارتهانهم لفلسفة ذكورية.

ينتهي بيديما إلى تناول ما يسميه بآفاق الفكر الإفريقي، وتتمثل؛ أولا، في محاربة القراءة الأصولية للتاريخ، بنسج علاقة جديدة بالزمن وإدراجه ضمن عمل ترجمة معاناة الإنسان الزنجي في شكل صرخة مدوية لا تخجل من إعلانها؛ ثانيا، الخوض في إنجاز قراءة فنية للواقع مفادها تقبل صمت التأمل الذاتي، وفصل الذات عن تجذرها الهوياتي الضيق، وفتحه على علاقة حقيقية مع الآخر باعتبارها الشرط الأساسي للخلاص، مع ضرورة إدماج الخطاب النسائي في المعالجات الفلسفية؛ ثالثا، إعادة بناء فهم العلاقة بالزمن؛ إذ لا مناص، في نظره، من الاجتهاد للقبض على المكان الذي يتحكم في الماضي من أجل ترويض المستقبل، وإفساح المجال لما يسميه باللمعان Fulgurance أو Kairos، الذي يسمح بالتمييز بين مفهومين: الانتظار (القلق مما يشكل تهديدا)، والفرصة (من خلال القبض على اللحظة). وهكذا بإزاء الثلاثي: ماضي- حاضر- مستقبل، يدعو بيديما إلى اختيار الما-بين لما يشكل ثنائيات، واللعب على المنجز وما ليس كذلك.

لا يخفي بيديما تأثره بالنظرية النقدية الألمانية في كتابته الفلسفية، واعتبر أنه من واجب الفلاسفة الأفارقة التعبير عن “عنف تحرري وصادق”، وإجراء “إصلاح للفهم”، على طريقة سبينوزا. لذلك يتعين على الفلسفة الإفريقية إنتاج تفكير مناسب عن البيو- سياسة”، ما دام يتعين على الفكر إنتاج فجوة مفتوحة دائما بقدر ما ترفض الانغلاق الهوياتي عليه ألا يذوب في “كوْنية مُتَختِّرة”؛ خصوصا وأن سياسات التنمية التي نهجتها الأنظمة ما بعد الاستعمار عملت على إدماج سكان المجتمعات الإفريقية في اقتصاد للريع والاستهلاك الجماهيري بدل بناء شروط اقتصاد للإنتاج أو إعادة تأسيسها، وإفساح المجال لمبادرات الشباب والمرأة.

تابعوا آخر الأخبار من جريدة النهار على Google News
زر الذهاب إلى الأعلى