كتاب جماعي يدرس تاريخ النزوح إلى إفران ويفكك ثقافة “وادي الأدباء”

رغبة في “التوثيق” و”إعطاء كل ذي حق حقه والإقرار به حضوريا وغيابيا”، حاول كتاب جماعي حديث الصدور بعنوان “واحة إفران الأطلس الصغير وأحوازها: الإنسان والمجال والتنمية”، أن يستحضر نطاقاً جغرافيّا في علاقته بالناس، توخيا لمناهضة “النسيان ومحاربة التجاهل”، وتقريب القراء من “الطبونيميا، أي عندما “تتحجر” لغة الأرض في أسماء الأماكن، وأسماء أعلام بصموا تاريخ إفران، والإقليم والجهة والوطن”.

ويبدو أن نزعة “التأريخ” و”رصد الحاضر”، ورهان التطعيم المستمر للذاكرة الفردية والجماعية، وحاجتهما إلى مشاركة أزيد من 20 باحثا من المغرب وخارجه ساهموا في الكتاب، بإشراف لجنة علمية تتكون من 13 أستاذا جامعيا، موزعة بين جامعة ابن زهر والقاضي عياض والمراكز الجهوية، تطلّبا “جهداً جماعيّا تكامليا، يحافظ على وحدة الموضوع، ينشغل به من زوايا متشعّبة وفي نفس الوقت متراصّة، قادرة على رسم صورة كاشفة عن الإفرانيين”.

التنقيب مجالاً وأرضاً

جاء في مقدمة الكتاب الجماعي، الذي يقع في 489 صفحة، الذي نسّقه الباحثان الحسن تيكبدار ورشيد صديق، أن “بلدة إفران الأطلس الصغير، الكبيرة بأمجادها وتراثها المادي واللامادي وبمجالها الجغرافي وتنوعها البشري، لا تخرج عن سياق مرجعي يقاوم التجاهل”؛ فبالنسبة للباحثين، فلئن “لُقّبت إفران بوادي الأدباء، فإن الأمر ليس اعتباطيا، بقدر ما ينم عن زخم أدبي بمفهومه الواسع جدا، رفع مشعله عاليا فقهاء وعلماء وأدباء وباحثون إفرانيون، حتى وقت قريب”.

وبفعل الجفاف المتواتر، وخاصة إبان العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وبالتالي “انتقاص وتيرة شريان الحياة بواحة إفران، ونتحدث هنا مجازا عن الماء كعصب الحياة؛ فقد نتج عن ذلك نزيف سكاني نحو المدن المجاورة وكذا البعيدة وإن وجب الإقرار بأن الهجرة تعد من الثوابت في البلدة، ذلك أن أسباب ودواعي النزوح إلى إفران منذ فجر التاريخ، كما هو الشأن بالنسبة للطائفة اليهودية، تكاد تكون هي ذاتها تجاوزا، بالنسبة للإفرانيين أنفسهم بسبب موجات القحط”.

غير أن التقديم العام للمؤلف يفصح مرة أخرى عن “غرابة” تتخفى في “قوة تشبث الإفرانيين شباباً وكهولاً بالمجال وحبهم له، وغيرتهم اللامشروطة، التي قل نظيرها، على واحتهم وأهلها، إن وجدوا داخل المغرب أو خارجه”. فـ”أبناء وحفدة أدباء الوادي، إفران الأطلس الصغير، حتى إن دفعتهم ظروف ما إلى هجرة الموقع، لا ينقطعون قط عن التبرك بالزيارات المتواترة لذويهم هناك ما بين العطل والأعياد والمواسم والمناسبات”.

هذه الحقائق الموضوعية، نبّهت “الحفدة الإفرانيين” إلى ضرورة “نشر ما تجود به قريحتهم البحثية، توثيقاً وصوناً بصيغة أخرى، لتاريخ وحاضر ومجال وساكنة الواحة وثقافتها الثرية، كما هو الشأن بالنسبة لجمعية سيدي داود التي بادرت إلى نشر هذا الكتاب البحثي الجماعي”، مضيفة أن الكتاب يراد له أن يكون “نبراساً لمبادرات أخرى قادمة جماعية كانت أم فردية”.

“قاعدة بيانات علمية”

في تصريحه لجريدة جريدة النهار، قال الحسن تيكبدار، معدّ ومنسق الكتاب، إن “هذا العمل الضخم والمرجعي يأتي في إطار توثيق المجالات الواحية بواد نون والواحات الصحراوية المغربية، التي تتعرض لكثير من عوامل التدهور في الفترة الأخيرة”، مؤكداً أن الكتاب يندرج “ضمن جهود البحث العلمي لبناء قاعدة بيانات حول أقدم واحة بجنوب المغرب عرفت استقرارا بشريا يعود إلى ما قبل التاريخ”.

وأشار تيكبدار، الذي يساهم أيضا في الكتاب بورقة بحثية حول “تجليات الحياة الاجتماعية لجماعة اليهود بإفران الأطلس الصغير”، إلى أن “المنطقة المذكورة [إفران الأطلس الصغير] هي ممر للتجارة الصحراوية وتمزج بين روافد متعددة منها الإفريقي والعبري، لكن بطابع أمازيغي محلي ممتلئ بالغنى”، ولهذا، يحاول المؤلف “تسليط الضوء على تاريخ المنطقة ووضعيتها التنموية وينفض الغبار عن مجال أدبي خصب يزهر بالأسر العالمة”.

ولفت المتحدث إلى “تشخيص الكتاب لوضعية الهجرة ودورها في اقتصاد المنطقة، كما استعرض ملامح عريضة من التراث العبري باعتبار منطقة إفران هي أقدم منطقة جغرافية استقبلت اليهود بجنوب المغرب وبها أقدم مقبرة، وتشكل ملتقى للتعايش الديني والثقافي”، مسجلاً أن هدف الكتاب هو “تشجيع البحث العلمي حول بوادي المغرب والاستثمار في بناء المعرفة العالمة، وتشجيع الشباب على الاهتمام بتراث أريافهم التي تشكل جزءا من الحضارة المغربية الفسيفسائية”.

يشار إلى أن الكتاب يشمل ستة فصول تتكامل فيما بينها، منها موضوع “الطبونيميا الأمكنة واللغة”، وأسماء أعلام بصموا تاريخ إفران، وأدب “الإفرانيات”، وضمنه الأدب العبراني والتراث الثقافي المادي واللامادي الإفراني، من تعايش المسلمين واليهود والأدوار الطلائعية للزاوية الناصرية بالواحة، والأسر العلمية وغنى خزائنها، فضلا عن الطقوس والعادات المحلية ومجال تحرك الساكنة، ومسائل دقيقة في ميدان الهجرة إقليميا ووطنيا ودوليا وأثر ذلك كله على ساكنة إفران الأطلس الصغير.

Exit mobile version