جزء ثان من مذكرات الحقوقي والفاعل السياسي السابق امبارك بودرقة، المعروف حركيا زمن سنوات الرصاص بـ”عباس”، صدرَ بعنوان “بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة.. من حلم الثورة إلى فضاء حقوق الإنسان”.
ومن بين الأسماء الحاضرة في هذا الجزء القيادي اليساري الجذري أبراهام السرفاتي، كما تتناول الفصول مواضيع “التجارب النضالية” التي صقلت الهوية الحقوقية لصاحب المذكرات، وعودته إلى أرض المغرب بعد ثمان وعشرين سنة من المنفى، وعضوية المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وتجربة هيئة الإنصاف والمصالحة.
وفي تقديمه للمؤلف كتب المؤرخ الطيب بياض أن “ما يميز بوح الحقوقي امبارك بودرقة (عباس)، وهو يتحدث في هذا الكتاب عن تجربته الحقوقية بتقاطعاتها المتعددة، أنه جاء مسنودا بإشهاد الوثائق، كما حصل مع تجربته في الحكي عن أحداث 3 مارس 1973″، وهو ما يرى فيه “ترسيخا لنمط جديد في كتابة المذكرات في المغرب، يُلزم الذاكرة بالتزود بالبراهين والحجج التي تثبت صدقية حكيها، قبل ولوج مختبر المؤرخ بغرض التأطير، في أفق إنتاج ذاكرة تاريخية تحظى بالمصداقية.”
ويوضّح بياض أن تتبع تجربة بودرقة الحقوقية يتيح “الإطلالة على سفوح ظلت ظليلة من ذاكرة المغرب الراهن في علاقتها بحقوق الإنسان، بعد أن غشَتها شعارات العَمَلَين السياسي السلمي والمسلح”، مضيفا “يظهر الفعل الحقوقي في البداية ثاويا في خلفية هذه اللوحة التي رسمت معالم المسار السياسي لمناضل اتحادي خبر السلاح والتنظيم السري والاختيار الثوري، وتدريجيا يحتل نضاله الحقوقي واجهة اللوحة.”
ومع بيان المؤرخ أن مسار المغرب منذ الاستقلال، “الحقوقي الضمني والمعلن- النضالي والرسمي”، يشكل “رصيدا مهما من الوثائق (أرشيف المحاكمات المرتبطة بقضايا الرأي والحركات الاحتجاجية، ملفات هيئة الإنصاف والمصالحة، التسجيلات المرتبطة بجلسات الاستماع العمومية..)”، فإن “كل هذه الأرصدة الوثائقية لا زالت مكدسة أمام باب مختبر مؤرخ الزمن الراهن، في انتظار أن يُعد صاحبه عُدته النظرية والمنهجية الكفيلة بمعالجتها بشكل علمي رصين، يُسعف في بناء معرفة تاريخية متينة تهم تاريخنا القريب.”
ثم يقف عند تجربة عباس التي تمثل مسارا له “من الخصوصية والتفرد”، مما يجعل ذاكرته تستحق الدراسة، مذكّرا بأن “صاحبها خَبِر مختلف المحطات (…) بعد أن عَبَرَ دروب النضال المتعددة (سياسي سلمي/ مسلح، جمعوي/ حقوقي). تحمل خلال هذا المسار مسؤوليات مختلفة، وكان مسكونا بهاجس التوثيق، فحاز رصيدا وثائقيا ثريا.”
ويسترسل قائلا إن بودرقة “بعد أن رست سفينة تجربته النضالية على شط العمل الحقوقي، كرس حيزا مهما من وقته للإسهام في حفظ الذاكرة في أبعادها المختلفة: ذاكرة الصحافة المغربية أولا عبر تجميعه وإصداره لتراث الصحافي والكاتب المغربي الكبير محمد باهي حرمة (رسالة باريس، يموت الحالم ولا يموت الحلم) سنة 2016، ثم ذاكرة العدالة الانتقالية، بعد أن أصدر سنة 2017 مع الأستاذ أحمد شوقي بنيوب كتاب (كذلك كان)، الذي دون معطيات مهمة عن تجربة هيئة الإنصاف والمصالحة، ليتفرغ بعد ذلك لإقناع المرحوم الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي بإصدار مذكراته، التي نشرها سنة 2018 تحت عنوان (أحاديث في ما جرى)”.
ويؤكد بياض أن عباس دخل بعد هذه الأعمال “تجربة غير مسبوقة في تاريخ المذكرات بالمغرب؛ بنشره للجزء الأول من مذكراته سنة 2020 تحت عنوان (بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة.. أحداث 3 مارس 1973)، حيث حَكيُ الذاكرة جاء مسنودا بإشهاد الوثائق وتأطير المؤرخ.”
وفي هذا الجزء الثاني من المذكرات “يستكمل المناضل السياسي والفاعل الحقوقي امبارك بودرقة (عباس) هذا المشروع الذي انخرط فيه بقوة من أجل حفظ الذاكرة، بمسعى أقرب إلى التوفيق بين بوح ذاكرته الموثقة وصيانة ذاكرة صديقه محمد باهي حرمة.”
ويضيف “بعد إصدار الجزء السادس من (يموت الحالم ولا يموت الحلم) (2022)، وحرصه على إصدار الجزء السابع من هذه السلسلة سنة 2023، يقدم للقراء جزءا ثانيا من مذكراته (بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة)، وقد اختار هذه المرة أن يتقاسم معهم تجربته الحقوقية معززة بالوثائق، كدَأبه في الجزء الأول من هذه المذكرات.”
ومن بين ما يخلص إليه المؤرخ الطيب بياض أن “القراءة الفاحصة لهذه التجربة الخاصة ضمن المسار العام لتاريخ المغرب الراهن في علاقته بالذاكرة وحقوق الإنسان تقتضي ألا تبقى الأرصدة الوثائقية، التي خلّفتها السنوات الموشومة في الذاكرة الجماعية للمغاربة بسنوات الجمر والرصاص، في غرفة انتظار مؤرخ الزمن الراهن”، وهو ما يسري أيضا “على كل ما رافق هذا التاريخ القريب والساخن من مذكرات وشهادات وإبداعات تحتاج إلى الاستثمار المنتج لاستخراج المادة العلمية منها من أجل بناء معرفة تاريخية رصينة تُدون تاريخنا الحاضر بقسط وافر من الموضوعية”.