بعد استنفادها كل أوراقها السياسية والاقتصادية في صراعها الأزلي مع المغرب، يبدو أن الجزائر أشهرت اليوم “ورقة الصوفية” من أجل معاكسة اختيارات الرباط وسياستها الخارجية تجاه الدول الإفريقية، خاصة موريتانيا التي زارها الخليفة العام للطريقة التيجانية بالجزائر، أول أمس الثلاثاء، حيث استقبله الرئيس الموريتاني بالقصر الرئاسي، وتباحث معه حول مستقبل العلاقات الجزائرية الموريتانية وسبل الرقي بها، خاصة في بعدها الروحي.
زيارة كانت لتعد عادية لو تمت في ظرف سياسي غير ذلك الذي تمر به المنطقة اليوم، إذ تشهد تحركات جزائرية واضحة في اتجاه كبح أي تقارب مغربي موريتاني، خاصة مع إعلان نواكشوط اهتمامها بالانضمام إلى المبادرة الأطلسية التي أطلقها العاهل المغربي، وهو ما أثار تخوف صانع القرار الجزائري الذي يُحاول بكل الأدوات السياسية والاقتصادية والروحية ثنيها عن الانخراط في أي مبادرات من هذا النوع، من خلال طرح بدائل لها، خوفا من أي تغيير في الموقف الموريتاني من قضية الصحراء لصالح المغرب.
تشويش جزائري
جواد القسمي، باحث في القانون الدولي والعلاقات الدولية، قال إن “حدث استقبال الرئيس الموريتاني خليفة الطريقة التيجانية في الجزائر، والسفير الجزائري بموريتانيا، بالإضافة إلى بعض الشخصيات الدينية الجزائرية، قد يدخل في الظروف العادية في إطار التحركات الدبلوماسية لأي دولة مع دولة أخرى جارة، وتقوية وتمتين علاقات التعاون، لكن بالنظر إلى السياق العام لهذه الزيارة، واستحضارا للتحولات الجيو-سياسية والجيو-إستراتيجية للمنطقة، وكذا واقع التنافس وصراع النفوذ المغربي الجزائري واتساع مظاهره وأبعاده، يجوز القول إنها خطوة أخرى للجزائر هدفها التشويش على تحركات المغرب وعلاقاته مع موريتانيا”.
وأضاف القسمي، في تصريح لجريدة النهار، أن “حضور البعد الديني والروحي كورقة مناورة جديدة من الجانب الجزائري ينضاف إلى الأبعاد السياسية والاقتصادية للتنافس بين البلدين، بالإضافة إلى حضور موريتانيا الملحوظ والمتكرر في خضم هذا الصراع، الذي يوحي بأن الجزائر تعي أهميتها ومكانتها في الفكر الإستراتيجي لدى صانع القرار المغربي، في إطار توجهه نحو العمق الإفريقي، مع محوريتها في المبادرة الأطلسية”.
وأوضح الباحث ذاته: “لعب الجزائر اليوم ورقة الطرق الصوفية، ومنها الطريقة التيجانية ذات الامتداد الواسع في غرب إفريقيا، وإن كان قد يشكل وعيا بأهمية الدبلوماسية الروحية في نسج علاقات قوية مع دول المنطقة فإننا نعتبره وعيا متأخرا، وليست له أسس قوية تدعمه، كما أنه لا يستند إلى رؤى واضحة وإستراتيجيات مدروسة، إذا ما قورن بالأشواط الكبيرة التي قطعها المغرب في هذا الباب، من تكوين للأئمة والوعاظ الأفارقة، زيادة على مكانة المملكة الروحية لدى الطائفة التيجانية كأكبر الطوائف الصوفية في إفريقيا، والوفود الكبيرة التي تزور مرقد مؤسس الطائفة بمدينة فاس”.
وخلص المتحدث إلى أن “الجزائر اليوم تلعب جميع الأوراق الممكنة والمتاحة لديها خوفا من أي تقارب موريتاني مغربي، مدعوم بمصالح اقتصادية قد تدفع في اتجاه تغير في الموقف الموريتاني من قضية الصحراء ومسألة الحكم الذاتي بالأقاليم الجنوبية”، خاتما: “شاهدنا الكثير من تحركات الجزائر نحو موريتانيا، كمسألة المعابر البرية ومشروع الخط البحري بين البلدين، وهي تمني النفس بهكذا تحركات خلق بدائل قد تجعل موريتانيا تترد في الدخول في شراكات قوية مع المغرب. إلا أن ما تقدمه الجزائر لا يعدو أن يكون مشاريع انفعالية لا تنبع عن حاجات اقتصادية حقيقية، ما يجعلها مجرد جعجعة إعلامية يصعب تحقيقها واقعيا”.
توجه تنافسي وريادة مغربية
من جانبه أورد إسماعيل أكنكو، باحث في القانون العام والعلوم السياسية، أن “الطريقة الصوفية التيجانية لها امتدادات واسعة في إفريقيا، ويمكن القول إن لها نفوذا كبيرا أيضا في القطرين العربي والإسلامي، وهي من أقوى الحركات الصوفية التي تعول عليها الأنظمة السياسية لتثبيت خياراتها الدينية والترويج لأفكارها السياسية”، مردفا: “بالرجوع إلى السياق الذي تأتي فيه الزيارة يمكن اعتبارها رد فعل على الزيارات المتكررة التي يقوم بها ممثلو الطريقة التيجانية المعتمدة في السينغال ونيجيريا إلى المغرب، وما تعبر عنه هذه الأخيرة من إعجاب وارتياح للنموذج المغربي في كافة المناحي، وهو توجه تنافسي لا يبارح الذهنية الجزائرية وتحاول أجرأته على كل الأصعدة، بما فيها الجانب الروحي”.
وتابع المصرح لجريدة النهار: “الجزائر فطنت إلى أن المغرب توغل في إفريقيا، وخاصة الغرب الإفريقي، وشمل حضوره كافة الميادين، بما فيها الجانب الروحي. ويمكن الاستدلال في هذا المقام بمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة التي تم إحداثها بتوجيهات ملكية بهدف النهوض بالشأن الديني الإفريقي وصيانته، فيما تحاول الجزائر بناء على ذلك استغلال هذا التوجه لتنحو منحى المغرب ومنافسته على الزعامة الإفريقية، والحد من نفوذه الدبلوماسي والسياسي بأدوات دينية وروحية، غير أنها أغفلت منطلقا مهما في تأطير هذا التوجه، وهو موقع إمارة المؤمنين التي تكتسب منها تحركات المغرب الشرعية، خلافا للجزائر التي لا تتمتع بهذا النوع من الأسس”.
ولفت المتحدث ذاته إلى أن “موريتانيا بالنظر إلى المبادلات التجارية والتعاون الاقتصادي الذي تبرمه مع المغرب، ورغبة منها في الاستفادة أكثر من الفرص التي سيتيحها الفضاء الأطلسي كفضاء للتواصل الإنساني ومجال للتكامل الاقتصادي، أصبحت قاب قوسين أو أدنى من التصريح علنا بدعم مقترح الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية المغربية كمدخل أساسي لإرساء الحل السياسي لنزاع الصحراء، وهو ما يبرر تحركات الجزائر على هذا الجانب؛ غير أن هذا الموضوع سيكلفها الكثير، وقد يطول تذبذب الموقف الموريتاني غير أنه سيكون منسجما والمصالح القومية لهذا البلد”.