نظمت شعبة الأنثروبولوجيا بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة لقاء علميا أنثروبولوجيا، استضافت فيه الأنثروبولوجي المغربي زكريا غاني، أستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط وأستاذ زائر بالعديد من الجامعات والمؤسسات البحثية (جامعات ماكجيل وبرينستون وليدن وتورينتو وبولونيا ومدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية)، وهو حاصل على الدكتوراه في علم الأحياء من جامعة جنيف وفي الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية من جامعة مونتريال. المحاضرة العلمية تناولت موضوع “في أنثروبولوجيا تشكل السياسي بالمغرب.. خلاصات من وحي تجربة ميدانية”.
وفي كلمة تقديمية للنشاط عدد فوزي بوخريص، أستاذ علم الاجتماع ورئيس الشعبة نفسها بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة ابن طفيل، بعض دراسات وكتب المحاضر، منها: “النزعة الإنسانية في الزمن التكنولوجي”، “الولي والسلطان.. نشأة السياسة في المغرب”، “التعددية في الإسلام.. دراسة أنثربولوجية، “سياسات الجسد”، “le pouvoir de guérir”، “le maroc au présent… “.
وأشار بوخريص إلى تجربة زكريا الميدانية في التجربة الإثنوغرافية الأولى أو ما يمكن تسميته “بيداغوجيا الميدان”، معرجا في كلمته على الحديث عن نقطة أولى تتعلق بالإشكالات والصعوبات التي يواجهها الباحث الأنثروبولوجي الإثنوغرافي بالمغرب وهو يدخل البحث الميداني، ونقطة ثانية هي مزيج من مشاعر الخوف والقلق والتردد، خصوصا في حالة الباحث زكريا غاني، الذي أجملها بوخريص في كونه ذو خلفية بيولوجية وقادم من مونتريال، مشيرا إلى أنه توجد صعوبات أخرى تتعلق بالموضوع الذي يدرس وهو موضوع الأضرحة والشعوذة والمس والجنون، ومظهر الصعوبة، حسب المتحدث ذاته، يكمن في جانبين: الأول يتعلق بتصور وذهنية ومعتقدات عينة البحث حول الموضوع، والثاني يتعلق بزاوية نظر البعض للموضوع كونه قد يكون موضوعا مبتذلا وكثرت الدراسات حوله .
وأوضح بوخريص أن الباحث تجاوز طريقة البحث “التقليدية” وخاض غمار التجربة الإثنوغرافية بالتركيز على الميدان وزيارة مدن وقرى ودواوير، والتحدث مع العرافات (الشوافات)، ومع الناس في الأضرحة والحافلات والشارع والمقاهي، ممارسا نوعا من الإثنولوجيا القائمة على الزهد والتجرد ونكران الذات في تجربة أشبه بتجربة الصوفي، والإنصات إلى الآخرين بالتخلي عن الأحكام الفوقية وعن التعالي بنوع من الألفة والأهلية.
واعتبر بوخريص أن هذه الألفة تخلق قربا من الموضوع، منبها في الوقت ذاته إلى كون “القرب من الموضوع كثيرا ما يبعدنا لأنه يمكن أن يكون عامل عماء لنا، ويحجب عنا الكثير من الأمور والأشياء”. وتساءل: “كيف يمكن للقرب، خاصة الثقافي، أن لا يخلق نوعا من العمى الإثنوغرافي ونوعا من العجز عن معرفة الأشياء؟”، مشيرا إلى أن هذا الأمر يعتبر وهما من الأوهام يجب التغلب عليه. كما ذكر بوهم ثان أسماه “وهم عذرية الميدان” بتجنب الميادين التي عرفت بحوثا كثيرة. وهما وهمان، يضيف بوخريص، نجح زكريا غاني في تخطيهما انطلاقا من تجاوز عملية القرب الثقافي كابن بلد، وكذا عذرية الميدان من خلال اختياره ضريح ولي غير معروف والدراسات حوله قليلة جدا، خاصة الأنثروبولوجية منها، هو ضريح الولي الصالح سيدي أحمد بن يفو بالقرب من الجديدة.
زكريا غاني بدأ تدخله بالحديث عن أهمية الأنثروبولوجيا ولماذا هي مغيبة في الجامعات المغربية، متسائلا: “ما هي الأسباب التي جعلت شعبة الأنثروبولوجيا لم تمأسس في المغرب إلا سنة 2022 بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة؟”. وفي محاولة إجابته عن هذا التساؤل ذكر المحاضر مفارقة بوجهين متناقضين: فالمغرب من أكبر الميادين والبلدان التي عرفت البحث الأنثروبولوجي وأغلب الأنثروبولوجيين، سواء خلال الفترة الكولونيالية أو بعدها، تواجدوا به ودرسوه، في حين أن الأنثروبولوجيا كشعبة غائبة عن الجامعات المغربية.
وفي محاولة منه لشرح وجه المفارقة والإجابة عن التساؤل، قال زكريا غاني إن “الأنثروبولوجيا شعبة مشاكسة، إذ تذكر ببقايا غير الحديث في دولة تعتبر نفسها في مسار الحديث والتحديث”، مشيرا إلى أن “الموقف ليس سياسيا فقط، بل موقف أشخاص لم يبادروا”، موضحا أنه كان هناك تموقع ما بعد الاستعمار ضد شعبة تعنى بكل ما هو “هامشي” كما يراه ويتصوره البعض، في حين أنه ليس هامشيا، “علما أن المشروع الوطني كان مشروع تنمية، والمفارقة أن البعض كان يرى أن الشعبة تخصص منشغل بالماضي أكثر من انشغاله بالتنمية، وللأسف هو موقف تيار بعض المفكرين المغاربة”، معرجا في حديثه على اهتمام أنثروبولوجيين كبار كجاك بيرك ودافيد هارت وغيلنر بالدراسة الأنثروبولوجية والإثنوغرافية للمجتمع المغربي، الذي انغمسوا فيه لمعرفة تركيبته وفهمه وفهم عقلية الناس وطرق تفكيرهم وعيشهم لأن فهما من هذه النوع يسهل التحكم في المجتمعات والدول، حسب المحاضر. وزاد قائلا إن “الأنثروبولوجيا في تناولها لأي موضوع فهو حساس، ليس لطبيعة الموضوع في حد ذاته ولكن لطبيعة المنهج، لأن الانغماس يجعله قريبا جدا من ثقافة المجتمعات والناس وتمثلاتهم، وكيف يتملكون ممارساتهم الطقوسية ويصنعون تاريخهم، لدرجة أن البعض كان يشبه الإثنوغرافيين بالجواسيس”، موضحا أن القرب الحميمي للمجتمع يجعل أي موضوع يتناوله الباحث حساسا لأن الرؤية البعيدة لا تكشف عن ممارسات وجوهر الخطاب وكذا الميدان والمجتمع المدروس.
وإضافة إلى الانغماس الإثنوغرافي تحدث المحاضر عن مصطلح “الغطس” عند الحديث والبحث في بعض الممارسات التي لا يستطيع الناس التحدث فيها، مقدما مثالا شخصيا عن هذا يتجلى في كونه لما حاول البحث في مسألة السحر والأضرحة، وأثناء حديثه مع الناس كانوا يقولون جميعهم، وأحيانا وهم بداخل الضريح، إن زيارتهم للأضرحة ليست من أجل التبرك أو الطلب، ولكن من أجل الترفيه والنزهة، وأنهم لا يؤمنون بتلك المعتقدات. وهذا خطاب، في نظره، متأثر ومؤثر بإيديولوجيا سائدة. ومن هنا يأتي دور الانغماس والغطس كمقاربة جوهرية للعمل الأنثروبولوجي لتجاوز المسافة بين القول والفعل. فـ”لو لم يتم الانغماس وتم العمل بمقابلات أو استمارات لن نخلص إلى نتائج حقيقية تعبر عن الواقع، بل قد نصل إلى نتائج مغلوطة وسنخرج بشيء آخر”، يقول زكريا غاني، مضيفا أن هذا الانغماس يقرب المسافة من الواقع ويبعد المسافة من الأطر والخلفيات النظرية لترقب انبثاق معالم الممارسات والظواهر.
ومن المفاهيم الأخرى التي نحتها المحاضر وقدمها خلال محاضرته لدورها الفعال في البحث الأنثروبولوجي، وضرورة أن يأخذ بها الإثنوغرافيون، “الانعكاس” و”الانحراف”، فمن خلال انغماس الباحث داخل الميدان يجب أن يكون عنده نوع من الانعكاسية ويفكر بشكل عكسي، وهذا الانعكاس مسألة خاصة بالباحث وليس بالمبحوث، عبر التركيز على دينامية التفاعل والإشعاع، “وأفضل هنا كذلك مصطلح الانحراف، فالاشتغال يجب أن يركز على مسار البحث وموضوعه، ولا يمكن لأي موضوع إثنوغرافي أن يبقى في مساره”، يقول زكريا غاني، مقدما مثالا يتعلق بكونه أراد الاشتغال في الأول على الأبعاد المسرحية والتعبيرية حول الطقوس المرتبطة بالسحر والمس، وكيف أن الأفراد يمسرحون ويعبرون بشكل تعبيري فني ويطمحون ويرنون إلى الالتقاء بين كينونات أخرى، “وعندما زرت الميدان بحثت عن شاعرية الموضوع وحدثني الناس عن الديني والولي الصالح وكيف له سلطة تتحول إلى بركة يكتسبها الأبناء والأحفاد وتعطيهم حق الانتماء إلى شجرة الولي التي تنخرط بدورها في شجرة للأشرف”، موضحا أن هناك خطابا ميثولوجيا بوجود شجرة الأشراف ووثائق وأوراق تحكي التاريخ، غير أنه لاحظ أن البعد المسرحي والشاعري غائب هنا، وفي مقابله يحضر المخيال السياسي من خلال القدرة على التحكم في الأرواح والأجساد، وهنا ينتقل وينحرف الموضوع من المسرحي إلى السياسي انتقالا صريحا دون مقاومة.
وختم زكريا غاني مداخلته بالحديث عن مفهوم آخر هو التعلم بالانفتاح على أبعاد ومفاهيم أخرى بكل عفوية، والتخلص من جاهزية المعلوم وأطره المحددة وخلفية البحث، والانفلات من الأطر الخلفية الجاهزة المتحكمة في الأطر النظرية، خصوصا أن أغلب النظريات تعتمد على مجموعة من الثنائيات: الروح/ الذات، المادي/ المعنوي، الفيزيقي/ الميتافيزيقي، المخيال/ الواقع…، داعيا الباحث إلى أن لا يصبح رهينة للثنائيات، لكن يجب عليه من جانب آخر أن يفرق بين كل ثنائية أو يتجنب دمجهما في واحدة. واقترح في هذا السياق وصفة للاشتغال على الخط الرابط بينهما، في الحدود التي تربط بالثقافة وتفصل عنها في نفس الوقت، ناحتا مفهوما آخر لهذا الاشتغال وهذا الخط بين الثنائيات هو “البرزخ”، الذي يساعد على تجاوزها انطلاقا من التأسيس لعمل أنثروبولوجي محلي ومفاهيم منبثقة من ثقافة محلية، وهو ما لن يتم، حسب زكريا غاني، إلا بالاتصال المرهف والدقيق والحساس بالميدان.