تتنافس الشركات التكنولوجية الكبرى، في السنوات الأخيرة، على تطوير مجموعات جديدة من نماذج الذكاء الاصطناعي تٌمكن من التواصل الطبيعي عبر اللغات، كما تعمل على إنشاء منصات وتطبيقات متطورة لترجمة مختلف النصوص والمقالات المكتوبة والمسموعة، مما بات يطرح عدة تساؤلات حول مستقبل مهنة المترجم، وإن كان الذكاء الاصطناعي يشكل تحديا حقيقيا للمترجمين المحترفين.
أعلنت شركة “META” عن تطوير مجموعة جديدة من نماذج الذكاء الاصطناعي، تحمل اسم “سيمليس كوميونيكيشن” تجمع بين أكثر من 100 لغة منطوقة ومكتوبة مع الحفاظ على الأسلوب الصوتي والعاطفة ونبرة صوت المتحدث، وتشمل اللغات المدعومة الإنجليزية والإسبانية والألمانية والفرنسية والإيطالية والصينية.
تسهيل عمل المترجم
وتتنافس كل من “مايكروسوفت” و”أوبن إيه آي” (مبتكِرة تشات جي بي تي) على تطوير منصات الترجمة وقاموسها المعرفي من أجل تسهيل هذه العملية على الطلبة والباحثين وغيرهم.
كما سبق أن أعلنت شركة “سامسونغ” الكورية عن إضافة أداة الترجمة الفورية بواسطة الذكاء الاصطناعي في الهاتف الذكي الجديد للشركة المقرر طرحه في عام 2024، مبرزة أن هذه الأداة ستمكن من ترجمة الصوت أو النص في الوقت الفعلي.
وفي هذا الإطار، أكد مصطفى عاشق، مترجم تحريري وفوري، وباحث في ديدكتيك اللغات والترجمة واللسانيات بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن الذكاء الاصطناعي أصبح يحظى بمكانة هامة في الترجمة التحريرية والفورية، بحيث له دور هام في الترجمة الآلية التي تعتمد على الخوارزميات لترجمة نص مكتوب أو مسموع من لغة إلى لغة أخرى.
وشهدت بعض الأنظمة الحاسوبية، يقول عاشق، في تصريح لـSNRTnews، نقلة نوعية مع استخدام الذكاء الاصطناعي والتي تتمثل في تحسين جودة الترجمة، مشيرا إلى أن أدوات الترجمة المبتكرة بتقنية الذكاء الاصطناعي تساعد المترجمين في عملهم اليومي وتساعدهم على زيادة كفاءة الترجمة والحفاظ على اتساق النصوص وتقديم مقترحات بناء على المحتوى المترجم مسبقا.
كما توقف عند مميزات أخرى للذكاء الاصطناعي؛ على رأسها “معالجة اللغات الطبيعية، بحيث تعتبر البرمجة اللغوية العصبية ضرورية لفهم لغة شبيهة بلغة الإنسان وتوليدها أيضا، وتوفير خدمات لغوية متقدمة بما في ذلك التدقيق اللغوي وتحسين الأسلوب وإدارة المصطلحات والتي تساعد المترجمين الفورين في تقديم عمل عال الجودة”.
وأكد المترجم عاشق أن نماذج الذكاء الاصطناعي أصبحت أكثر مهارة في فهم السياق والتعابير الاصطلاحية، ما يعزز دقة الترجمة التحليلية والفورية.
ماذا عن مهنة المترجم؟
وعلى الرغم من كل هذه المزايا، يقول الباحث في ديدكتيك اللغات والترجمة واللسانيات بجامعة محمد الخامس بالرباط، تظل الخبرة البشرية حاسمة ولاسيما في النصوص سواء المكتوبة أو المنطوقة التي لها حساسية ثقافية وتتطلب دقة السياق وفهمه وتفسيره.
وفي هذا الصدد، يرى عاشق أن لغة الذكاء الاصطناعي تحسنت إلا أن ذلك لا يضمن دقتها وفهمها واستعابها التام للسياق، نظرا لتحديات عديدة أمام الذكاء الاصطناعي التي تحول بينه وبين تحقيق ترجمات مثالية؛ من بينها الغموض والسياق.
وأوضح، في هذا الإطار، أن أغلب اللغات الطبيعية غامضة بحيث يختلف معنى الكلمة أو العبارة بناء على السياق المستخدمة فيه، لهذا، يضيف عاشق، تحاول أنظمة الذكاء الاصطناعي جاهدة ترجمة اللغة الغامضة بشكل دقيق ومفهوم، “لكن ذلك يؤدي إلى أخطاء كثيرة”.
أما التحدي الثاني الذي مازالت تواجهه أنظمة الذكاء الاصطناعي، وفق عاشق، فيتعلق بالفروق اللغوية الدقيقة والتعابير الاصطلاحية؛ إذ تحتوي اللغات على تعابير اصطلاحية وحمولات ثقافية لا تتوفر على معادلات مباشرة بلغة أخرى وتتطلب ترجمتها الدقيقة فهما عميقا بثقافة الآخر ولغته.
وأوضح المترجم عاشق أن الذكاء الاصطناعي يجد في هذا النوع من الترجمة صعوبة وعراقيل، “لا سيما الوثائق القانونية والطبية والتقنية والتي تتطلب معرفة عميقة بالمصطلحات الخاصة بالمجال”.
وخلص الباحث في ديدكتيك اللغات والترجمة واللسانيات بجامعة محمد الخامس بالرباط، إلى أن دور المترجم البشري يبقى ضروريا وحاسما من أجل ضمان الدقة والملاءمة الثقافية والفهم الدقيق للمعنى، مشيرا إلى أن الترجمة المثلى هي التي تجمع بين الذكاء الاصطناعي والخبرة البشرية.
تعقيدات اللغة
بدوره، أكد الكاتب والمترجم والأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الحسن الثاني بالدارالبيضاء، مراد زروق، أن أساتذة الترجمة التحريرية والشفهية في المعاهد المتخصصة في الترجمة وأقسام الترجمة في الجامعات باتت تستوقفهم تساؤلات الطلبة عن جدوى التخصص في مجال قد تتسيّدهُ الآلة في وقت من الأوقات وقد يختفي كمهنة قائمة بذاتها.
وفي هذا الإطار، أوضح المترجم زروق أن الذكاء الاصطناعي مكن القائمين على هذا المجال من تجويد الترجمات ولا سيما بين اللغات المتشعبة عن اللاتينية أو اللغات الغربية، لافتا إلى أن النصوص أصبحت ذات جودة كبيرة، خصوصا المترجمة من الإنجليزية إلى الفرنسية والألمانية والإسبانية ومؤكدا وجود فرق شاسع بين هذه الترجمات الجديدة وترجمات بعض محركات البحث في وقت سابق.
وأبرز الأستاذ الجامعي، الذي سبق له أن عمل أستاذا بكلية الترجمة بجامعة غرناطة وبمدرسة الملك فهد العليا للترجمة، أن الذكاء الاصطناعي قطع شوطا مهما في ما يخص تجويد هذه الترجمة، لكن، يقول مستدركا، مع ذلك يبقى دور الإنسان أساسيا، “في ظل التعقيدات التي تتميز بها اللغة والتي لا يتمكن منها سوى المترجم المحترف، ناهيك عن المجالات المتخصصة والدقيقة، مثل بعض القطاعات التي لا يمكن للآلة أن تتدخل فيها وتقوم مقام الإنسان نظرا لوجود مسؤولية قانونية للمترجم.
كما يرى زروق، في تصريح لـSNRTnews، أن ترجمة أنظمة الذكاء الاصطناعي من وإلى اللغات ذات الأصول الأخرى غير اللاتينية مازالت متخلفة (على غرار اللغة العربية التي تتميز بقواعد وبلاغة في الكلام تصعب ترجمتها بشكل آلي).
أما في ما يتعلق بالترجمة الشفهية، فيعتبر زروق أن الذكاء الاصطناعي لم يرق بعد إلى المستوى المطلوب، لأن الحقل الدلالي لهذه البرامج التي تقف خلف الآلات الجديدة محدود ويسمح بالتواصل في سياقات معينة فقط، “لهذا لا تقوم هذه البرامج مقام المترجم الفوري في المؤتمرات والاجتماعات المتخصصة”.
وبدوره خلص الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، إلى تحقيق تقدم هام في مجال الذكاء الاصطناعي والذي يتعايش معه الإنسان، لافتا إلى اعتماد متزايد للتراجمة الفوريين على برامج الذكاء الاصطناعي، “إلا أننا لم نصل بعد إلى إمكانية الحديث عن حلول الآلة مكان الإنسان الذي أظهر قدرته على التأقلم مع كل المتغيرات الصناعية والعلمية والتكنولوجية”.