بسبب وحشية الشرطة سال الدم فاندلعت انتفاضة عنيفة تحطم وتحتل وتكسر الممتلكات العامة، نار.. نار.. نار.. في فيلم “أثينا” (على نيتفليكس 23-9-2022) من إخراج رومان غافراس. تتحرك الكاميرا لتُظهر وحدة المكان… البطل الحقيقي للفيلم هي الكاميرا المحمولة التي تطارد ما يجري، يجري اللعب بالوسيط السينمائي وهو معادل الراوي الذي يصير موضوعا لسرده. تتبع الكاميرا شخصية طاووسية عنيدة دون مؤهلات تحاول تزعم انتفاضة لكن الأحداث تتجاوزها.
كانت قطرة الدم المسفوك هي الشرارة المُهيّجة، أما المسببات فعميقة… يوحي المكان بضواحي المهاجرين حيث الأحياء البئيسة في مدن فرنسا، عمارات أقفاص تمتد إلى ما لا نهاية فيها شقق صغيرة مكتظة بعيدا عن البنى التحتية الأساسية، يعزز الديكور مصداقية الأحداث.
تمت السيطرة على حي أثينا من طرف فئة هائجة تريد تنظيم ثورة بخطوات كارثية… تريد التفاوض وهي تحمل كوكتيل مولوتوف مشتعل… تم الاستنجاد بشخص معتوه لتقوية الاعتصام وكسب الوقت، لكن ذلك الشخص كانت لديه حسابات خاصة بعثرت الخطة.
يعرض جنريك فيلم “أثينا” أسماء مغاربية في ضاحية فرنسية من المناسب تحليلها بسوسيولوجيا الأقفاص: عمارات عمودية مكتظة عالية جدا ولا مؤسسات أفقية في المحيط… من تبعات ذلك الاكتظاظ السخطُ على الذات والمكان، يجد الشاب أمامه حاويات أزبال فيشعل فيها نارا. يتأكد هنا قول تشي غيفارا:
“تتكشف نقمة الفقراء على مستقبلهم من خلال ردود أفعالهم الحادة”.
هذا عنف يمارسه شبان يعانون من غياب العدالة ومن الشعور بالظلم، وهم يبحثون عن التغيير ويرفضون أنه “لا جديد تحت الشمس”. وليس لديهم ما يخسرونه، هذا عنف سياسي وليس عنف مجاني كما في أفلام الكاراتيه.
لتشخيص الأزمة صمم السيناريست حبكة صعبة:
شاب من أبناء المهاجرين الغاضبين من الدولة الفرنسية صار يخدم في الجيش الفرنسي… فجأة قتل قريب له… لمن سيكون ولاؤه للدولة أو للقرابة الدموية؟ هذه حرب وسط الدولة وتجد امتدادها وسط الأسر المتحدرة من شمال إفريقيا.
يؤرخ الفيلم لحدث وقع وسيقع وهو صدام الشرطة مع شباب الأحياء الشعبية “الحساسة” بلغة الشرطة. يطرح الفيلم موضوعا يحتل الصفحات الأولى للجرائد ويتكرر في المدن الفرنسية بشكل دوري… وقع تجمهر مسلح للمطالبة بحق كشف الحقيقة وتحديد الشرطي المجرم. تجمهر ترتب عنه عنف منفلت… شبان غاضبون يفرغون بؤسهم بتحطيم الممتلكات العامة… تتبعهم كاميرا محمولة… في انتفاضة على طريقة شغب الملاعب… هذه كمونة باريس فوضوية… تلهث الكاميرا خلف الأحداث مما جعل اللقطات تتشابه على صعيد المحتوى والأسلوب. هذا التشابه يفتقد العمق وقد يسبب الملل..
كان الدم المسفوك مناسبة للانتفاضة كما حصل بعد مقتل البوعزيزي في تونس في 2010 ويحصل الآن بعد مقتل مهسا أميني في الجمهورية الإسلامية في شتنبر 2022، انتفاضات تتغذى من الغضب المتراكم، غضب تطارده كاميرا سياسية، من فرط تأثير الفيلم خرج رئيس المنطقة التي صور فيها إلى الصحافة لينفي أن يكون حيّه هو موقع أحداث القصة.
يصور فيلم “أثينا” مجموعة شبان تنازع الدولة في احتكارها للعنف، لذا فهيبة الدولة تحت الاختبار… لا تسمح الدولة القومية لغيرها باحتلال الفضاء العمومي… لا تتفاوض مهما كان الثمن، لذا يسيل المزيد من الدم… لن يسمح جهاز البوليس دول كثيرة بتصوير مشاهد مشابهة… بالنسبة للبوليس يوجد مكان خاص بالتفاوض بين المنتخبين… يتحدث منتخبو الجمهورية على شاشات التلفزة عن أحياء لا تطبق قوانين الجمهورية الفرنسية المجيدة، أحياء يحكمها ملتحون وتجار مخدرات… يتم تأليب الجمهور ضد المنتفضين الغرباء:
“نحن على صواب هم على خطأ”.
هكذا توفرت تغطية سياسية لعمل الشرطة ضد من يختلق ثورة قصيرة الأمد في حي أثينا.
لتصوير هذا المخاض، لا تهدأ الكاميرا ولا تبحث عن إضاءة مثالية… هي كاميرا سياسية تطارد ما يجري… عبر مسارات ملتوية معتمة… تجري الأحداث في وقت قصير، تتحرك الكاميرا لتلقط وتطارد العنف المنفلت. شقيقان نزيهان يبحثان عن العدالة بطريقتين مختلفتين… في قلب هذه الفوضى يوجد انتهازي يحركه هاجس الربح بغض النظر عن من مات ومن ناضل.
تجري الأحداث في مكان مغلق بين أبناء الحي… شبان ينتمون إلى وسط سوسيوثقافي بئيس مما يحكم على مستقبلهم بالإعدام، هنا يلعب الدين والأصل المناطقي والعرق واللهجة أدوارا في تشكيل الهويات والعلاقات. يصفي أبناء الحي حساباتهم في ما بينهم… ثم يتجهزون لمواجهة الدولة العدو… بدأ الفرز، هذا واحد منا وذاك واحد منكم… يجري فرز حاد في قلب الحي الشعبي: هل أنت معنا أو ضدنا؟ في مشهد يرتدي عبدول جلبابا أبيضا فوق البذلة العسكرية… تداخلت الهويات والتبسَت.
هذا مأزق ولاء الجيل الثالث من أبناء المهاجرين… ولدوا في فرنسا ولا صلة لهم بها فعليا. يتحرك عبدول في موقع ملتبس بين “نحن” و”هُم”، يرتبط بالدم بالضحايا ويرتبط بالولاء بالدولة.
في لحظة الأزمة على بطل الفيلم أن يختار. إما وإما.