بوقنطار يقارب ما بعد الهدنة الإنسانية في قطاع غزة ومأزق الاحتلال الإسرائيلي

قال الأكاديمي المغربي الحسن بوقنطار إن “إسرائيل اضطرت إلى القبول بهدنة مؤقتة نتيجة وساطة قادتها قطر ومصر والولايات المتحدة الأمريكية على أساس إطلاق دفعة أولى من الرهائن”، مضيفا أن “الجوانب الإنسانية للاتفاق لا تمنع من طرح عدد من التساؤلات حول مآل الخيار العسكري الإسرائيلي، وحول ما إذا كان فعلا كفيلا بإخراج الصراع من هذا النفق بفعل ما وقع في 7 أكتوبر وما تلاه من أعمال انتقامية عمياء”.

وقارب بوقنطار التساؤلات المذكورة، في مقال له بعنوان “ما بعد الهدنة الإنسانية: مأزق إسرائيل”، من خلال محورين أساسيين هما: “حدود الخيار العسكري الإسرائيلي”، و”أي أفق لما بعد هذا الاتفاق الأولي؟”.

وهذا نص المقال:

بعد خمسين يوما من العدوان الأعمى، الذي خلف آلاف القتلى من الأبرياء، وتدمير أكثر من نصف قطاع غزة، خاصة المرافق الحيوية، فيما يشكل جرائم حرب بمفهوم القانون الدولي الإنساني، اضطرت إسرائيل إلى القبول بهدنة مؤقتة نتيجة وساطة قادتها قطر ومصر والولايات المتحدة الأمريكية على أساس إطلاق دفعة أولى من الرهائن الذين أخذوا في سياق العملية التي قامت بها كتائب القسام في 7 اكتوبر الماضي، مقابل إطلاق 150 من السجناء الفلسطينيين.

من الواضح أن هذه الاتفاق قد شكل لحظة إنسانية مهمة مكنت من جهة أولى من السماح بإدخال المساعدات الإنسانية لإغاثة سكان غزة الذين يؤدون ثمنا باهظا من جراء العمليات العسكرية الإسرائيلية المتواصلة، ومن جهة أخرى سمحت بإطلاق سراح دفعة أولى من الرهائن الذين تحتجزهم حركة حماس، مما سيفتح باب الأمل بالنسبة لباقي الرهائن من خلال صفقات مقبلة في حالة استمرار الطرفين في هذا النهج.

في السياق نفسه، فإن هذه الهدنة الإنسانية مكنت عددا من السجناء الفلسطينيين، ومن بينهم بعض أتباع حماس، من مغادرة السجن، وهم الذين يعتبرون أيضا محتجزين من طرف السلطات الإسرائيلية، طالما أنهم متابعون في ظل قوانين الاحتلال الإسرائيلية.

لكن هذه الجوانب الإنسانية التي لا يمكن إلا تثمينها، والعمل على تكريسها من خلال الوصول إلى وقف لإطلاق النار يمكن بدوره من خلق دينامية جديدة لإحقاق سلم عادل يتيح للشعب الفلسطيني إنشاء دولته كشرط لازم لضمان أمن إسرائيل، لا تمنع من طرح عدد من التساؤلات حول مآل الخيار العسكري الإسرائيلي، وحول ما إذا كان فعلا كفيلا بإخراج الصراع من هذا النفق بفعل ما وقع في 7 أكتوبر وما تلاه من أعمال انتقامية عمياء.

أولا: حدود الخيار العسكري الإسرائيلي

من الواضح أن ما نشهده اليوم يبرز حدود السلوك الإسرائيلي للرد على ما وقع في 7 أكتوبر. فتحت ضغط الصدمة وسيطرة الانفعالات، قاد الجيش عدوانا متواصلا بدعوى تحقيق هدفين أساسيين، هما: إطلاق سراح الرهائن، وتدمير القدرات العسكرية لحركة حماس. لكن اضطرار القيادة الإسرائيلية إلى القبول على مضض بهذه الهدنة، معناه الإقرار بالفشل في تحقيق الهدفين.

فبعد خمسين يوما من التقتيل والحصار والتدمير، لم تستطع القوات الإسرائيلية، بمكوناتها الاستخباراتية والميدانية، أن تحرر ولو رهينة واحدة. ومرة أخرى، كما قلنا في مقالة سابقة، يثور التساؤل حول فعالية المخابرات الإسرائيلية، بما تملكه من تكنولوجيات التجسس، في التعرف على أماكن تواجد الرهائن.

الأدهى من ذلك، أن الحملة الإعلامية التي قادها الجيش الإسرائيلي من أجل إظهار منشآت مدنية، كمستشفى الشفاء، وكأنها استعملت كأهداف عسكرية من طرف حماس، لم تعط المرجو منها، طالما أنها كانت تفتقد للأدلة الدامغة وللصفاء الاستراتيجي.

فيما يتعلق بالهدف الثاني، أي تدمير القدرة العسكرية لحركة حماس، لا يبدو إلى حد الساعة أنه تحقق بالشكل المرجو. لا ريب في أن إسرائيل بضرباتها العشوائية، وبقدرتها على تطويق القطاع، وإحكام الحصار عليه برمته في ظل صمت دولي، قد تمكنت من إضعاف حركية حماس، لكن يصعب القول إنها تمكنت من شلها.

من الواضح أنه بعد خمسين يوما من العدوان، اضطر نتنياهو إلى التفاوض ولو بشكل غير مباشر مع هده الحركة التي يعتبرها، إسوة بالحكومات الغربية، حركة إرهابية، مما أسفر عن إطلاق عدد من السجناء الفلسطينيين. وهو إنجاز لا يمكن أن يقرأ إلا على أساس أنه انتصار لحماس، يمكن أن يرفع من شعبيتها كحاملة للواء المقاومة. في السياق نفسه، فإنه يمثل أيضا انتصارا لإيران التي تتموقع بشكل واضح كفاعل لا مناص منه في ما يجري في هذا الجزء من العالم.

ثانيا: أي أفق لما بعد هذا الاتفاق الأولي؟

هل يمثل هذا الاتفاق لحظة إنسانية مؤقتة ستسمح لإسرائيل بالعودة إلى ممارسة عدوانها أم إنه قد يشكل بداية لسلسلة من الاتفاقات التي ستفضي في نهاية المطاف إلى وقف لإطلاق النار؟ هذا السؤال يطرح في العمق مأزق إسرائيل، ويسمح لنا، في انتظار ما ستسفر عنه تطورات الأيام المقبلة، من جهة، بطرح بعض التساؤلات، من قبيل: هل قبول إسرائيل بهذا الاتفاق يشكل مجرد مناورة من أجل مواصلة عملها الاستخباراتي لتحديد مكان باقي الرهائن بالرغم من الاحتياطات التي طلبتها حركة حماس، وبالتالي العمل من أجل إطلاق سراحهم فيما بعد اعتمادا على القوة المفرطة التي تستخدمها؟

في حالة تحقق هذا السيناريو، يكون نتنياهو قد تمكن من تحقيق الهدف الأول المتعلق بإطلاق سراح جميع الرهائن، وهو أمر يعول عليه من أجل استرجاع بعض شعبيته التي تبين استطلاعات الرأي الإسرائيلية أنها ما زالت متدنية تنذر بنهاية مستقبله السياسي.

لكن، إذا استبعدنا هذه الفرضية، نلاحظ أن هامش المناورة بات ضيقا بالنسبة لنتنياهو ولإسرائيل. فإطلاق هذه الدفعة الأولى من الرهائن يزيد من ضغط عائلات باقي الرهائن، وكذا الدول، خاصة منها الغربية التي ينتمي إليها بعض هؤلاء الرهائن. ومن ثم، قد لا يجد مناصا من الاستمرار في هذه المفاوضات من أجل هدنة أخرى، قد تساعد في نهاية المطاف على تحقيق وقف لإطلاق النار.

إلى حد الساعة، يستمر الخطاب الإسرائيلي في الادعاء أن الحرب لن تتوقف إلا بتدمير حركة حماس، لكنه في العمق يدرك أنه هدف غير واقعي.

بصرف النظر عن الثمن الباهظ الذي يدفعه المدنيون الأبرياء، فإنه من الصعب تدمير هذه الحركة دون مقاربة سياسية تفتح أفقا للسلم في المنطقة وباب الأمل أمام الفلسطينيين. فالمقاربة محض عسكرية لا يمكن أن تحطم قناعات تترسخ أكثر فأكثر بفعل مشاعر الكراهية والشعور بالغبن إزاء الاحتلال وتصرفاته منذ تأسيس دولة إسرائيل. العمليات العسكرية العمياء لا يمكن أن تمحي الذاكرة الفلسطينية، بل على العكس من ذلك قد تزيد من الهوة بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني، وتعمق من مظاهر التطرف.

لذلك، تفرض الحكمة أن تستمر هذه الهدنة الإنسانية للتفكير في صيغ أخرى لتجنيب المنطقة مزيدا من المعاناة. ومع تحقق هذا المبتغى، يظل سؤال تدبير قطاع غزة مطروحا بحدة. إذا فترضنا أن إسرائيل، مدعومة أساسا بالولايات المتحدة والدول الغربية، لا تريد أن تستمر حركة حماس في مواصلة الدور القيادي الذي كانت تقوم به قبل عملية انتفاضة الأقصى، ومن جهة أخرى إذا أخذنا بعين الاعتبار صعوبة عودة إسرائيل إلى الاحتلال المباشر لقطاع غزة، اعتبارا لكون الجيش لم يفلح أبدا في تدبير وضعيات ما بعد الحرب، وكذا بفعل المعارضة التي تواجهها من طرف قوى مختلفة، والشيء نفسه بالنسبة لعملية التهجير نحو سيناء لجعل غزة منطقة خالصة لإسرائيل، فمن الواضح أن السؤال يبقى مطروحا حول من سيدير المرحلة المقبلة.

منطقيا، لا يمكن أن تبقى غزة بدون إدارة مسيرة لشؤونها، لا سيما أنها ستواجه تحديات كبيرة؛ أبرزها إعادة بناء ما تم تدميره من طرف العدوان الإسرائيلي، وكذا ترتيب العلاقات المستقبلية مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.

من الواضح أن هناك خيارات متعددة قد تطرح على مائدة النقاش الدبلوماسي. ومن الواضح أنه في انتظار تحقيق الهدف الأساسي المتمثل في إقامة دولة فلسطينية تتعايش جنبا إلى جنب مع إسرائيل، فإن المطلوب اليوم هو إقناع إسرائيل بالتخلي عن مقاربتها الأمنية والعسكرية، لكونها أصبحت أكثر فأكثر معرضة لمناهضة عالمية، حتى داخل الدول الغربية التي استباحت حكوماتها في وقت سابق الدم الفلسطيني. وأكثر من ذلك، فإن التمادي في ممارستها لن يجر إلا مزيدا من المعاناة، ويكرس عزلتها ولن تتمكن من تبرير التوازن بين الدفاع عن أمنها وخرق الوازع المعنوي الذي يميز الإنسانية عن البربرية والممارسات الوحشية.

إن إرجاع إسرائيل إلى صوابها يتطلب التفكير في صيغة لتنظيم المرحلة الانتقالية، في حالة الاتفاق على وقف لإطلاق النار. وهناك اقتراحات عدة مطروحة ينبغي للدبلوماسية استثمارها.

المقترح الأكثر رواجا والأكثر واقعية، هو الذي يكمن في تمكين السلطة الوطنية الفلسطينية من العودة إلى غزة، لكن يتطلب هذا الأمر إيجاد قيادة أكثر مصداقية، ومقبولة من طرف الفلسطينيين، ومن بينهم أنصار حماس الذين يظلون متعاطفين مع الحركة، حتى في حالة استبعادها من التسوية المحتملة.

في حالة تعذر ذلك، يمكن للدول العربية، وأساسا منها تلك التي ترتبط بعلاقات مع الطرفين، كما هو الشأن بالنسبة لقطر ومصر والمغرب والإمارات العربية، أن تساهم في قوة مشتركة تضمن احترام وقف لإطلاق النار على أساس العمل الجدي من أجل بناء مرتكزات الدولة الفلسطينية.

يمكن توسيع النقاش ليشمل التفكير في إدارة دولية مؤقتة، كما كان عليه الأمر بالنسبة لكوسوفو، وهو أمر يعني معاينة حالة من الفراغ، وبالتالي وضع قطاع غزة تحت الحماية الدولية، في انتظار حل نهائي يتفق الكل على أنه يتجسد في تمكين الفلسطينيين من دولتهم.

صفوة القول، أكثر من أي وقت مضى، فإن خروج المنطقة من دوامة العنف يبقى رهينا بإرادة الأطراف المباشرة في الصراع، وبقدرة المجتمع الدولي على مخاطبة إسرائيل التي تمارس عدوانا غير مبرر بلا جدوى هذه المقاربة الأمنية والعسكرية المحضة. فأمنها، وكذا مواجهة التطرف وانخراطها في محيطها يبقى رهينا بالانخراط في دينامية السلم، قوامها التخلي عن سياسة المستوطنات في الضفة الغربية، ورفع الحصار الذي حول غزة، منذ مدة، إلى سجن مفتوح، والالتزام بمتطلبات الشرعية الدولية الداعية إلى الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في بناء دولته.

Exit mobile version